بدأ الحزب الشيوعي اللبناني أعمال مؤتمره الوطني الحادي عشر، أو ما يصح تسميته بالمؤتمر "الأول بعد العاشر"، إذ إن هذه التسمية تنبع من الأهمية الاستثنائية لهذا المؤتمر. فالشيوعيون اللبنانيون يثبتون أنه لا تزال هناك مساحة للديمقراطية والنقد والنقاش في بلد أصبح نظامه من شدة عفنه يتاجر بالنفايات، من خلال مجلس وزراء ليس سوى مجلس إدارة شركة لتصدير النفايات واستيراد التبعية.
إن الشيوعيين يضعون أنفسهم، في المؤتمر المرتقب، أمام تحد تاريخي، يفرض عليهم معادلة شديدة البساطة والتعقيد في الوقت ذاته، فهذا المؤتمر يحمل لهم ومن خلالهم للفئات الشعبية التي يمثلونها؛ إما حتمية النهوض أو الاندثار. إلّا أننا على قناعةٍ بأنه سيكون مؤتمر النهوض، وحتمية هذه النتيجة نابعة من ضرورة وجود الحزب وأهميته في بلد كهذا.
إن للحزب دوراً وظيفياً مهماً (أو فعالاً) عهدناه (أو لعبه) منذ التأسيس ويجب ان يستمر ويتطور، ولا يمكن لأحد أن يلعبه سواه على المستويات كافة، وهذا هو التحدي الحقيقي اليوم أمام المؤتمر. إذ ان تحديد دور الحزب حالياً ليكون فعالاً وفقاً للتطورات والمتغيرات هو ما سيجعل من الأهداف أوضح، وبالتالي المهام حاضرة والفعالية كذلك. فالحزب اليوم، يمكن وصفه بالغائب الحاضر، فموقفه السياسي "صحيح" نظرياً إلا أنه غير قابل للتطبيق عملياً، وبالتالي تسقط صحته النظرية المزعومة ويتحول إلى موقف إنشائي صحيح لغوياً، ما جعل الحزب يفقد المبادرة السياسية في العديد من القضايا التي يتبنى النضال في سبيل تحقيقها. وإشكالية عدم قابلية تطبيق هذا الموقف عملياً، توجب على الشيوعيين ضرورة العمل على إعادة النظر في موقفهم السياسي، فالتحولات السياسية في لبنان والمنطقة والعالم وصلت إلى حدٍ لا يمكن معه التمسك بشعار "الطهارة السياسية"، لأن "الطهارة" تعني عدم الفعل في هذه الظروف، وعدم الفعالية هذه هي مقتل الحزب الشيوعي.
هؤلاء المقاومون لا يجدون أنفسهم إلا داخل صفوف الحزب،
إلّا أن الحزب هو من تخلى عنهم

إن احدى الميزات التي صبغت الحزب الشيوعي اللبناني تكمن في حفاظه على وحدته التنظيمية، وبالرغم من وجود خلاف سياسي داخله إلّا ان ذلك لم يدفعه نحو الانقسام. ولكن هذا الخلاف الذي برز في بعض الأماكن، نتيجة عدم ممارسة الديمقراطية بشكل صحيح، أوصل الحزب إلى الشلل والتعطيل. لذا الشيوعيون مدعوون إلى تعزيز وحدتهم أكثر من أي وقتٍ مضى، ولكن هذه الوحدة التي يجب أن تحافظ على الاختلاف لا يجب أن تؤدي إلى تعطيل الحزب. هل هذا ممكن؟ طبعاً، باختصار هذا هو جوهر الديالكتيك الماركسي الذي يتبناه الحزب كمرجع نظري له في ممارسته السياسية.
هذا "الاختلاف ضمن الوحدة" يجعل هدف عودة الشيوعيين إلى حزبهم قابلاً للتحقيق، فهو يحفظ للجميع حقهم في إبداء رأيهم والتعبير عنه داخلياً، إلا أنه يضمن في المقابل وحدة تنفيذ أي قرار يُتخذ، كما أن تحديد دور الحزب الوظيفي سيدفعهم إلى العودة، لا بل سيجذب الآلاف من ضحايا النظام السياسي اللبناني للنضال في صفوف الحزب.
فهل يمكن أن يتصور أحد أنه في حال قرّر الحزب بشكل جدي العودة إلى ممارسة العمل المقاوم، أن آلافاً من كوادره التي شاركت في نضالات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) ستقابل الدعوة بالرفض؟ قطعاً لا، فهؤلاء المقاومون لا يجدون أنفسهم إلا داخل صفوف الحزب، إلّا أن الحزب هو من تخلى عنهم عبر تخليه عن دوره، وهم ينظرون إليه كل يوم وينتظرون المبادرة الجدية في هذا المجال. وهل يعتقد أحد داخل الحزب أن من أجبرهم النظام اللبناني على الهجرة أو العمل خارجاً من الحزبيين قد تخلوا عن حزبهم وهمّهم اليومي في تغيير النظام؟ قطعاً لا، فهم مستعدون لأن يقوموا بكل ما يحتاجه الحزب منهم، إن كان دعماً وحضوراً سياسياً كامتداد سياسي للحزب خارج لبنان، أو دعماً مادياً وغيره من أشكال الدعم. وهل هنالك شك في أن شباب وطلاب الحزب لن يكونوا جاهزين لتنفيذ خطة عودة الحزب للعب دوره في المجالات كافة؟ أيضاً وأيضاً الجواب هو لا، فهؤلاء ينشطون في المجالات كافة اليوم، وكما استطاعوا خرق جدار النظام في العديد من المحطات، وأيضاً لبوا كل نداء أطلقه حزبهم، فكيف لهم أن لا يكونوا مستعدين لمرحلة النهوض وهم التواقون لها.
إن الحزب يضم في صفوفه وحوله الآلاف من الكوادر القادرة على النهوض به، لا بل التواقة لذلك. لكن عملية النهوض لن تتم إلا بتنظيمها، ووضع خطة لها بإنتاج نهج قيادي داخل الحزب مؤمن بأن النهوض ممكن لا بل ضروري. وهذه هي المهمة الأساس أمام المؤتمر "الأول بعد العاشر" عبر إطلاق هذه العملية بتوكيل مهمة تنسيق "العملية" وقيادتها لنهج يتبناها نظرياً وعملياً ولديه خطة كاملة بعيداً عن الارتجال والعفوية.
كل هذه المعطيات تدفعنا للقول إنه مؤتمر "حتمية النهوض"، فالطاقات والقدرات موجودة، والنهج الذي سيستنهضها ويفتح الباب لها من أجل المبادرة جاهز أيضاً والذي سيحافظ على "الاختلاف ضمن الوحدة" من دون تعطيل لعمل الحزب، أي بتنفيذ دقيق لمبدأ المركزية الديمقراطية.
أما الكلمة الأخيرة فهي للشيوعيين، فمصير حزبهم بتاريخه وحاضره ومستقبله بين أيدي نقاشاتهم وقراراتهم المؤتمرية، وعليهم أن يكونوا كالمعتاد على مستوى التحدي.
* باحث لبناني