هادي قبيسي *البحث عن إطار لتقويم الحرب المحتملة بين حزب الله وإسرائيل، يقودنا للعودة إلى المبادئ الثمانية للحرب، التي تعدّ معايير عامة لتقويم المجهود الحربي وفعاليته. فإذا قارنّا واقع كلّ من الطرفين وقدرته على تطبيق تلك المبادئ، فسيتبيّن لنا شكل الصراع القادم وموقع كلّ منهما على المسرح، على أن هذه المقاربة تبقى معرّضة للمتغيرات القادمة التي ستمثّل نقاطاً جديدة على خريطة الصراع. فمن الآن وحتى انطلاق المدافع، تبقى أرض هذه المنطقة تغلي كأنّ بركاناًَ يتحرّك تحتها بهدوء ينذر بالطابع الحاسم للسنوات القادمة، إمّا لمصلحة شعوب هذه المنطقة، أو لمصلحة الشعب الدخيل المحتلّ والمغتصَب. والمبادئ التسعة هي: وحدة القيادة، الهدف، الهجوم، التحشّد، التأمين، الاقتصاد في القوى، المناورة والبساطة والمفاجأة. وهي لا تُعدّ العناصر التامة للحرب، بل مبادئ عامة تربط بين النظرية الصرف والتطبيق الميداني، كما لا يمكن النظر إلى كلّ منها بشكل منفصل عن الآخر، فالحرب عمل متشابك ومتداخل ولا يمكن تجزئته إلّا من الناحية النظرية لتسهيل فهمه. لنذهب إلى مقارنة تأخذ كلّ مبدأ على حدة، لنخفّف من غموض صورة المستقبل المرتسم أمامنا.
ـــ وحدة القيادة: وتقضي بإشراف قائد واحد على المجهود الحربي. وتقضي هذه الوحدة بإشراف قائد واحد على المجهود الحربي. وإسرائيل تعاني اختلالات على صعيد التركيبة القيادية، فثمّة تشتّت بين دائرتي القرار السياسية والعسكرية، ويبرز هذا التشتت في الميدان السياسي والعسكري في قضايا إسرائيل المصيرية: الحرب مع «حماس»، الصراع مع سوريا، والحرب المتوقعة مع حزب الله. حيث إن وجود أولمرت رأساً للدولة وهو دون خلفية أو تجربة عسكرية، زاد المسافة الفارقة بين دائرتي القرار الأساسيتين، وجعل الخطوط شبه معطَّلة بينهما.
أضف إلى هذا، التدخل الأميركي الكبير في القرار الإسرائيلي الذي مثّلت حرب تموز الماضية نموذجاً له، مدفوعاً بالقلق الأميركي الدائم على توازن القوى القائم في المنطقة، وضعف الثقة بالبنية القيادية الإسرائيلية الحالية، الذي تكرّس أيضاً خلال تلك
الحرب.
حزب الله من جهته تلقّى ضربة موجعة استهدفت قيادياً بارزاً ذا باع في الصراع وخبرة طويلة، غير أن العلاقة بين دائرتي القرار السياسي والعسكري تحافظ على حيويتها نتيجة وجود شخصية راكمت خبرات طويلة في الصراع مع إسرائيل على رأس القيادة السياسية، ما يجعل خطّ التواصل بين الدائرتين قائماً على أسس مشتركة
وواضحة.
ـــ الهدف: وهو توجيه المجهود الحربي نحو هدف محدد بدقة ووضوح، هدف حاسم وممكن التحقق. مشكلة العدوّ الإسرائيلي في تحديد الأهداف وتوضيحها برزت في لبنان وغزة مؤخراً، وهي ليست مشكلة نابعة من خطأ فكري أو إداري، بل هي تعود إلى التحوّلات التي طرأت على موازين القوى بين إسرائيل وأعدائها، حيث لم يعد باستطاعة الصهاينة الإعلان عن أهداف مقبولة بالنسبة إليهم وممكنة التحقّق في الوقت نفسه، فليس أمامهم قوىً جاهزة للتراجع أو الاستسلام تحت الضغط، ولذلك فإن هذه المشكلة مرشّحة للاستمرار والتفاقم مع الهزائم المتلاحقة التي تمنى بها معنويات العدو. وعلى المستوى التكتيكي ليس هناك من معلومات تملأ بنك الأهداف الذي أفرغت حرب تموز ما تراكم فيه طيلة سنوات عشر، هذا إضافةً إلى فقدان العدو التفوّق المعلوماتي في الميدان، نظراً إلى سرية حركة
المقاومة.
المقاومة في لبنان من جهتها لديها بساطة ووضوح في الهدف العسكري المعلَن لنشاطها وهو: منع الاحتلال والعدوان وحماية المدنيّين في الوقت ذاته. وإذا كانت قد نجحت في القسم الأوّل من الهدف الاستراتيجي، فإن القسم الثاني يحتاج إلى العمل على تكريس توازن رعب حقيقي وفاعل لا يمكن أن يتحقّق بإطلاق 300 صاروخ يومياً، بل لا بدّ من مضاعفة هذا العدد عدّة مرّات، وتوسيع نطاق استهداف الجبهة الداخلية الإسرائيلية إلى أقصى حدّ ممكن. أمّا تكتيكياً، فيمثّل الجيش الكلاسيكي وكتله الضخمة أهدافاً ميدانية بحدّ ذاتها.
ـــ الهجوم: وهو تحصيل زمام المبادرة والاحتفاظ به واستخدامه لتحقيق أهداف الحرب.
إسرائيل تقف الآن في موقع الدفاع، تنتظر رد فعل المقاومة على اغتيال الشهيد عماد مغنية، لتقرر الردّ على الردّ، بحسب قيمة وحجم ومستوى الاستهداف الذي ستتعرّض له، وهي الآن مضطرّة إلى المحافظة على تأهّبها وقتاً يمتدّ حتّى حصول الردّ، وهذا ما يجعل التأهّب يفقد من فعاليته في كلّ يوم يمرّ ليصبح دون أي مضمون. أمّا من الناحية التكتيكية، فعندما تقدم إسرائيل على تحرك بري واسع، ستتحوّل مباشرة إلى الدفاع نتيجة عدم تحقُّق الأهداف الاستراتيجية الهجومية الملقاة على عاتق قواتها.
حزب الله في الحرب المقبلة يستطيع أن يحدّد التوقيت، ويستعدّ للمواجهة لأقصى درجة ممكنة فيمسك بالتالي بزمام المبادرة ويحقّق المفاجأة الاستراتيجية، وخصوصاً إذا استطاع استهداف أحد القادة العسكريين الفاعلين، إذ سيدخل الصهاينة الحرب مربكين إدارياً ومحبطين معنوياً.
ـــ التحشّد: حشد القوى العسكرية في المكان والوقت المناسبين. الفكر العسكري الإسرائيلي استنفد خلال 26 سنة من الصراع كل الأفكار التي تُعدّ مناسبة لمواجهة العصابات، وهو يلجأ الآن إلى فكرة كلاسيكية تماماً وهي إغراق الجبهة وحشد أكبر عدد ممكن من القوات بأقصى ما يمكن الميدان أن يستوعب، لكن تحديد المكان والوقت المناسبين يحتاج إلى المعلومات التفصيلية عن انتشار الخصم وتموضعه وثغره.
المقاومة من جهتها، خلقت استراتيجية جديدة كلياً تخلط بين النظرية الكلاسيكية ونمط حرب العصابات، فهي تتبنّى مبدأ التحشّد الدفاعي، وبإدراكها ومعرفتها بأرضها وحركيّتها العالية يمكنها تحديد المكان والزمان المناسبين استراتيجياً وتكتيكياً.
ـــ التأمين: وهو يقضي منع العدو من تحقيق تفوق غير متوقّع. فوجئت إسرائيل في الحرب السابقة في البرّ والبحر، ففي البرّ لم تكن تتوقّع امتلاك المقاومة لصواريخ حديثة مضادّة للدبابات، إضافة إلى الصمود الطويل للنقاط الدفاعية رغم القصف الدائم لها. وفي البحر تمّت إصابة رمز البحرية الإسرائيلية وتفوّقها التكنولوجي والحرب، فيما لم تُفاجأ المقاومة بإجراءات العدوّ وفشلت كلّ الإنزالات والعمليات الخاصّة خلف الخطوط.
الحرب المقبلة التي يمكن المقاومة أن تحدّد لحظة انطلاقها بنسبة كبيرة ستكون تجربة أكثر حرصاً في التأمين، وخصوصاً أن العدو قد استهلك طيلة ربع قرن من الصراع أغلب أساليب ونماذج القتال ضدّ العصابات، ولم يعد هناك الكثير من الأفكار التي قد تحقّق له تفوّقاً غير متوقع.
ـــ الاقتصاد في القوى: وهو تقبّل المخاطر في بعض النواحي مقابل تحقيق انتصار حاسم في بؤرة محددّة.
ترتكز إسرائيل بحسب أحد الخبراء الصهاينة على قوة عسكرية طاغية مقابل تدنٍّ كبير في القدرة على التحمّل وهذا ما سيجعلها مضطرّة إلى الاهتمام بكل قواتها وحمايتها في الوقت نفسه، وعدم تقبُّل المخاطر الجزئيّة لمصلحة الهدف الرئيسي مع افتراض دقّته ووضوحه.
في المقابل، ترتكز المقاومة على إمكانات هائلة في تحمل المخاطر والقدرة على التمحور حول الهدف الرئيسي الذي يمكن تعريفه ميدانياً بإسقاط أكبر عدد ممكن من الخسائر في قوّات العدوّ لدفعه إلى التراجع عن أهدافه.
ـــ المناورة: دفع العدو إلى موقع سلبي عبر الاستخدام المرن للقوة القتالية. تمتلك إسرائيل تفوّقاً نارياً حاسماً مقابل المقاومة، لكنّ توظيفه غير واضح، فالموقع السلبي إما أن يكون ميدانياً أو معنوياً.
ميدانياً، بالرغم من التمسّك النسبي للمقاومة بالأرض، فإنّ تخلّيها عن نقطة ما أو عدّة نقاط لا يوقف نشاطها وقدرتها على استهداف قوّات الغزو وتحقيق
الهدف. أمّا معنوياً، فإن كثافة النيران لا يمكن أن تمنع شاباً مقاوماً من مواجهة فصيلة عسكرية بكاملها وإسقاط عدد كبير من عناصرها بين قتيل وجريح كما حصل في العديد من المواجهات في الحرب السابقة، فعندما يحقّق المقاوم إنجازاًَ ميدانياً يمتلك التفوّق المعنوي مهما كانت كثافة النيران التي تواجهه.
ـــ البساطة: وهي تحضير الخطط الواضحة والأوامر الدقيقة لتحقيق الانسجام والتفاهم في الجسم القتالي
الهدف الواضح مقدّمة للخطط الواضحة وتوافر المعلومات شرط للأوامر الدقيقة. وإنّ ضعف العدو الإسرائيلي في نقطتي تحديد الهدف والمعلومات، سيدفعه إلى خيارين كلاهما مر: الأوّل وهو التحرك على طريقة: القيام بمعركة ونرى ماذا سيحصل. والآخر هو الاعتماد على القادة الميدانيين في المستويات الدنيا لاتخاذ القرارات، وقد أثبتت الحرب الماضية عقم المجتمع الإسرائيلي عن إنتاج قائد ميداني مبادر
وفعّال.
أمّا المقاومة التي تتبنّى استراتيجية دفاعية، فتستطيع تبسيط خطّتها وإيكال التعاطي مع المتغيّرات إلى القادة الميدانيّين الذين أثبتوا كفاءتهم خلال الحرب الماضية.
ـــ المفاجأة: وهي مهاجمة العدو في الوقت، المكان والطريقة التي لم يستعدّ لها. استراتيجياً، تستطيع المقاومة، كما أصبح واضحاً، تحديد زمان المعركة ولحظة انطلاقها إلى حدّ كبير. أمّا تكتيكياً، فيمكن لكلا الطرفين، كل بما يملك من معلومات وأوراق قوة غير مستخدمة، أن يحقق مفاجآت ميدانية.
خلال هذه المقارنة العاجلة يتّضح لنا مدى صعوبة اتخاذ قرار الحرب لدى العدو الصهيوني، الذي لم يجرؤ على المبادرة بها في فرصة سنحت له ليلة استشهاد القائد عماد مغنية، ممّا يدلّل على عدم وضوح الرؤية الإسرائيلية لنتائج أي حرب مقبلة، لذلك فهي تقف في مرحلة الانتظار مختبئة خلف متراس، تستنزف أعصابها، فيما المقاومة تعمل بهدوء تحضيراً للردّ وللحرب التي قد تتبعه، والتي حاولت المقارنة أن تفيدنا بشيء ما عن شكلها المفترض.
* كاتب لبناني