الحملات الاعلامية التي ترافق وصول «هبات» السلاح الأميركي الى لبنان لا تنفع الا لمعرفة اين تذهب اموال السفارة، اذ يجري التغنّي بـ»مزايا» المدافع الاميركية المستهلكة التي وصلتنا من الأردن ــــ والام 109 هو أقدم مدفع ذاتي الحركة يمكن أن تجده في السوق العالمية اليوم ــــ كما يتم الكلام عن طائرة الـ «سوبر توكانو» ذات المراوح، التي قد نحصل عليها بعد سنوات، كأنها طير الأبابيل (هل انتبه هؤلاء الى أنّ الأنظمة الالكترونية في الطائرة هي من صنع شركة «البيت» الاسرائيلية؟).
امّا الأخبار التي تردّدت مؤخّراً عن «موافقة» واشنطن على تزويدنا بطائرات «اف-5»، فهي اهانة موصوفة. الـ«اف-5» انتجت في الأصل حتى تزود بها اميركا حلفاءها من «الدرجة الثانية»؛ وهي صمّمت، منذ أكثر من خمسين سنة، حتى تكون بسيطة ورديئة ولا تحوي معدات حساسة في حال وقعت في أيدي السوفيات. الطائرة عمرها أكبر من عمر بعض امارات الخليج، وهي تمثّل، قبل أي شيء آخر، خطراً على حياة الطيارين والسلامة العامة.
المشكلة الأساس ليست في ما يتمّ اختياره للجيش، بل في ما يُمنع عنه. وتسليحٌ تحت اشراف غربي يعني ــــ اوتوماتيكيا ــــ أن الجيش ممنوع عنه أي سلاح يمكن أن يُقلق اسرائيل. لهذا السبب، تحوّلت الصفقات الى تمرين ذهني في كيفية توريد أسلحة بمئات ملايين الدولارات من دون اعطاء الجيش قدرة قتالية فعلية. اضافة الى هذه الضوابط، نجد أن هبة المليارات الثلاثة، مثلاً، هي عبارة عن دعمٍ سعودي مقنّع لصناعة السلاح الفرنسية (وهي جزء من عدة صفقات مشابهة تجري حاليا في المنطقة). فتبيعنا فرنسا أموراً مثل عربات «فاب» التي تحاول، منذ سنوات، تسويقها في الخارج، وحوامات «غازيل» عتيقة، ومدافع «سيزار» ــــ وهو ممتازٌ وباهظ الثمن، ولكنه يعني أن الجيش سيضطر الى تشغيل وصيانة أكثر من ثلاثة أصناف من المدفعية من العيار ذاته.
في عالم مثالي، المليارات الأربعة التي تمّ رصدها تكفي لتجهيز جيشٍ صغير حديث وفعّال، ولكن ليس حين يجري «تحديث» الجيش بالعقلية التي يعامل بها الغرب مجموعاته المسلحة في سوريا والعراق: تُحضّر لأجل أداء مهمة محددة وحسب. بالمناسبة، فإنّ شراء بطارية «اس 300» واحدة، وهي كل ما نحتاجه، لا يكلّف أكثر بكثير من 100 مليون دولار، وبالامكان، بنسبة يسيرة من قيمة الهبات، تجهيز مئات المجموعات الصغيرة بصواريخ حديثة مضادة للدروع، وتزويدها بأنظمة استطلاع، وحمايتها برادارات ونظم دفاع جوي حقيقية.
ولكن هكذا سيناريوهات لخلق قوة مستدامة، تقدر على مواجهة المجموعات المسلحة كقدرتها على مقارعة العدو الرسمي والفعلي للجيش، اسرائيل، صارت «مستحيلاً» في أذهان الكثيرين، الذين قنعوا بمراكمة المعدّات الاكزوتيكية ومخلّفات الدول. الحادثة الشهيرة في هذا الاطار لوزير الدفاع السابق الياس المر، والتي كشفتها وثائق «ويكيليكس» بتفاصيلها، دليلٌ على أن المشكل يبدأ في الداخل؛ ومن يحبّ الجيش يحبّ أن يراه قوياً، والشعب يتماهى مع الجيش حين يخوض حروبه، ويواجه أعدائه، ويحمل قضاياه.