منذ انشاء السلطة الفلسطينية عام ١٩٩٤ كمؤسسة للادارة الذاتية الموقتة، على بعض من اجزاء فلسطين المحتلة في حزيران ١٩٦٧، وعلاقة السلطة مع سلطة الاحتلال الاسرائيلي لها مرتكزات عدة. بعض هذه المرتكزات نظمتها اتفاقية اعلان المبادئ المعروفة باتفاق اوسلو. الاتفاقية التي على اساسها تبلورت علاقة التقاسم الوظيفي بين السلطة واسرائيل، حيث التنسيق الامني الوثيق، والتكامل الاقتصادي ضمن بنية الاقتصاد الاسرائيلي مرتكزين اساسيين للعلاقة. البعض الاخر من المرتكزات تبلور خلال مرور الوقت بناء على العلاقات الشخصية وسجل التجارب بين الجانبين.
بشكل عام هناك سمتان واضحتان للعلاقات بين الطرفين. اولاً ان السلطة لا تستطيع ان تمارس اي شكل من السيادة في اطار علاقاتها مع إسرائيل. ثانياً أن اسرائيل لها الرأي المقرر على الارض. كما ان سلة الحوافز والتسهيلات لمؤسسات السلطة وبعض قياداتها تقدمها اسرائيل في اطار تكتيكي عملياتي يخدم مصالحها، وهذا ثالثاً. اما السمة الرابعة فهي ان العلاقة بين السلطة واسرائيل نشأت واستمرت في شكل ادارة ازمة.
في اطار ادارة الازمة تنشأ مواجهات بين الطرفين، فكلما اقدمت قيادة السلطة على خطوة تتعارض ومصالح دولة الاحتلال، سواء التوجه الى الامم المتحدة، أو طلب لجنة تحقيق دولية، أو تجميد المفاوضات، اتخذت الاخيرة اجراءات عقابية تجاه السلطة. تتفاوت شدة الاجراءات الاسرائيلية وشكلها بناء على عوامل عدة اهمها: أولاً، مدى وشدة تأثير الخطوة المتخذة على منظومة الامن الاسرائيلية. ثانياً، درجة تعارض الخطوة مع الرؤية السياسية الاستراتيجية للمؤسسة الامنية - السياسية التي تحكم اسرائيل كدولة صهيونية. ثالثاً، ردة فعل المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الاميركية تجاه السياسة الاسرائيلية. رابعاً، ارتباط السياسة الاسرائيلية تجاه السلطة بحالة الحراك السياسي والتجاذبات بين الاحزاب الاسرائيلية.
ليس في حوزة السلطة
من أدوات للتعامل
مع إسرائيل بالمثل

في اطار استراتيجية ادارة الازمة؛ اسرائيل مستمرة في المماطلة والتسويف بغرض تأبيد الوضع القائم «ترسيخ الاحتلال». هذه السياسة يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني وخصوصاً الطبقات الشعبية محدودة الدخل والفرص المعيشية. لذلك تندلع هبات شعبية، سواء بشكل منظم او عفوي، تعبيراً مباشراً عن رفض استمرار الاحتلال، وبشكل غير مباشر التمرد على السلطة ورفض لاستمرارها كونها نتاج اتفاقيات مع هذا الاحتلال.
حتى تنفس السلطة ضغط الشارع، تمارس قيادتها الاستراتيجية الاسرائيلية نفسها؛ عبر اطلاق الوعود وتحقيق «انتصارات» ذات اثر محدود وذات طابع اعلامي شعبوي. الاثر المباشر لسياسة التسويف هو نقل العبء من اسرائيل الى السلطة التي بدورها تضعه على الطبقات الشعبية. لعل رفض اسرائيل تجميد الاستيطان خلال المفاوضات مع السلطة عام ٢٠١٠ وما تبعه من توقف لهذه المفاوضات، وتوجه القيادة الفلسطينية للامم المتحدة في ٢٠١١ و٢٠١٢ للحصول على مقعد دولة غير عضو مثال على سياسة التسويف ودحرجة ونقل العبء.
في حال مراوحة الازمة واتخاذ اسرائيل اجراءات اقتصادية تجاه السلطة عادة ما يكون رد السلطة اللجوء لوسطاء لهم وزن في المجتمع الدولي؛ مثل «الرباعية» التي تضم في عضويتها الولايات المتحدة، الاتحاد الاوروبي، الامم المتحدة وروسيا. ذلك ليس بغرض الضغط على اسرائيل وانما ايجاد مخرج لائق للسلطة. اطار سياسة المخرج هو ما يسمى «رزمة المحفزات» ذات الابعاد العسكرية والتجارية لاسرائيل و»رزمة المساعدات» للسلطة. لعل رفض قيادة السلطة التفاوض في ظل الاستمرار في سياسية اسرائيل الاستيطانية مثال ليس ببعيد، حيث وفرت الولايات المتحدة والاردن مخرجاً ما سمي في حينه المفاوضات الاستكشافية بين عريقات رئيس طاقم المفاوضات الفلسطيني، وملوخي رئيس الطاقم الاسرائيلي المفاوض في عمان. هكذا تستمر الازمة ولكن بمظهر وعنوان لا يلبثان يتجددان مع استمرار الاحتلال وسوء الاوضاع المعيشية.
جوهر المعادلة على الارض بين اسرائيل وقيادة السلطة هو الامن مقابل المصالح الخاصة. لعلها أحياناً الامن مقابل الامن، اي امن اسرائيل مقابل امن السلطة؛ خصوصاً بعد سيطرة حركة حماس على سلطة قطاع غزة عام ٢٠٠٧. المعادلتان تجعلان من الطرفين بحاجة الى بعضهما. لكن رغم ان لاسرائيل اليد العليا التي تحدد وتوجه وتعطي مضمون العلاقة بين الطرفين فإن مجرد وجود السلطة، بما هي عليه الان، حتى بدون تنسيق امني متبادل، يعطي غطاء «شرعياً» لاستمرار الاحتلال.
ليس في حوزة السلطة من ادوات للتعامل مع اسرائيل بالمثل كما ان موازين القوى بين الطرفين مختلة لمصلحة الاحتلال. مصدر القوة الاساسي للقيادة الفلسطينية المتنفذة ان لها شرعية تمثيل القضية الفلسطينية امام المحافل الدولية من خلال استمرارها في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية (م ت ف). لذلك في ظل عدم وجود عملية ديمقراطية لاختيار قيادة لـ «م ت ف»، ولا وجود شفافية في ادارة مؤسساتها؛ تبقى القيادة الحالية المتحكم في البرنامج السياسي للمنظمة. تحكمها في البرنامج السياسي هو مصدر قوة القيادة/ السلطة الذي يجعل اسرائيل معنية بإقامة العلاقة معها. كما ان اسرائيل معنية باستمرار هذه القيادة وترسخ مصالحها. تهديد السلطة بفك نفسها له حساباته عند اسرائيل. لكن هل لدى القيادة الفلسطينية الرغبة والقدرة على تنفيذ قرار الفك الذي يعني التضحية بمصالحها؟!
ان وجود سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني يُحد إمكانية فرض على إسرائيل القيام بواجباتها كدولة احتلال، حيث يفترض ان تقدم الخدمات الاساسية حسب القانون الدولي الانساني. هذا بغض النظر عن استمرار اسرائيل في التنصل من القيام بواجباتها كدولة احتلال، سواء في وجود السلطة او عدمها. لكن وجود السلطة في بعض اجزاء فلسطين يساعد في اعطاء انطباع ان المسؤول الاول عن تلبية الاحتياجات الاساسية للمواطن الفلسطيني من تعليم وصحة وامن هي سلطة الادارة الذاتية الفلسطينية. مفترضين انها سلطة ذات سيادة.
رغم ان السلطة في قطاع غزة بيد حركة حماس التي لا تعترف بشرعية الاتفاق الذي انشأت على اساسه، الا ان ما ينظم عمل مؤسسة السلطة هناك هو الاتفاقيات المبرمة بين «م ت ف» واسرائيل. اسرائيل غير معنية في انهيار السلطة كإطار عمل للعلاقة مع الفلسطيني حتى وان توقفت هذه السلطة عن اداء اجزاء كبيرة من وظائفها الادارية او تمت تسميتها ككيان معادٍ. السلطة كإطار للعلاقة مع القضية الفلسطينية تلزم مصر أن تنسق مع اسرائيل في ما يتعلق بالحدود والمعابر مع القطاع. السلطة في بنيتها واطارها السياسي مشروع براغماتي يضع على الحقوق التاريخية وعلى رأسها حق العودة، على الرف. لذلك فإن العنوان التلقائي للنضال الفلسطيني سواء كان منظماً او عشوائياً تلقائياً هو عكس مضمون ومبررات البرنامج المشترك للسلطتين الاسرائيلية والفلسطينية. بوصلة النضال الفلسطيني هي حق العودة في اطار حق تقرير المصير.
السلطة غير قادرة على وقف التنسيق الامني كونه أولاً من مصلحتها واستمراره يعني استمرارها. حتى في لما كانت العلاقة بين السلطة واسرائيل في الحضيض عامي ٢٠٠١-٢٠٠٢ استمر التنسيق الامني من خلال جورج تينيت، مدير وكالة المخابرات المركزية الاميركية، ومن خلال مكتب الوكالة في تل ابيب. لذلك فإن ما يناقش بين الطرفين هو اشكال فعالية ومضمون هذا التنسيق في مستوياته المختلفة.
قد يشير اصحاب المعارضة الداخلية للسلطة، المعنيين ببقائها، إلى ان السلطة تعاني من حالة ابتزاز سياسي عبر فرض عقوبات اقتصاديه عليها. لكن واقع الحال يشير إلى ان تأسيس السلطة كان نتاج افلاس سياسي حرّكه طموح اقتصادي لمجموعة اقتصادية متنفذة. هذه المجموعة (الطبقة) غلفت مشروعها بادعاءات ايديولوجية براغماتية مفادها انقاذ ما يمكن انقاذه فأقامت مشروع الادارة الذاتية واعطته مسميات تتناقض مع حقيقته في ارض الواقع من حيث السيادة والوطنية.
ان البحث في مشروع اطار لاستئناف المفاوضات يعني ان ٢٠ عاماً من المفاوضات السابقة كانت مجرد متاهة تدريب على «الحياة مفاوضات». شاخت خلالها القيادة وورّثت مناصبها لابنائها. كما تم ابتداع مراكز وظيفية لادارة السلطة وحتى لمناضلي المرحلة على شاكلة وزارة الدولة لمتابعة شؤون الجدار. ما يعني ان استمرار هذه الوظائف بما تعطيه من جاه، مصادر دخل، وسلطات، مرتبط باستمرار السلطة التي يرتبط وجودها بحاجات اسرائيل العملياتية والتكتيكية. فوجود السلطة هو أداة استراتيجية تنفي المشروع الوطني الفلسطيني بغض النظر عن ماهيته (دولة او دولتان) كما انها نتجت من اتفاق يعطي شرعية لوجود دولة اسرائيل على ارض فلسطين. حتى ان هيكل ووجود مؤسسات خارج السلطة، المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، مرتبط بوجود السلطة نفسها. حيث ان الخدمات المقدمة من قبل هذه المؤسسات، والصلاحيات الممنوحة لها، والجغرافيا السياسية التي تعمل ضمنها، تفرضها كينونة السلطة كبنية وظيفية من جهة والاطار الذي ترسمه سلطة الاحتلال. وعليه، ففي الوقت الذي تقدم فيه هذه المؤسسات خدماتها الاغاثية و»التنموية» الضرورية، فإنها تسهم في إدامة الوضع القائم، اي الاحتلال.
حتى لا يخرج رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، ليقول: مضطرون في هذه المرحلة لتجميد خطواتنا في المحكمة الدولية حتى لا تستمر اسرائيل في فرض خطوات عقابية على الشعب الفلسطيني؛ ينبغي على القيادة الفلسطينية البحث عن مخرج ذي بُعد استراتيجي. المطلوب الآن هو وضع الاراضي الفلسطينية تحت حماية دولية تتمركز خلالها قوات دولية توفر الحماية للشعب الفلسطيني. هذا المقترح اعاد تجديده الامين العام للجبهة الشعبية احمد سعدات، خلال رسالته الاخيرة من الاسر. هذا المقترح يوفر استراتيجية مخرج تقلل من عبء الاحتلال الذي لا يلبث يزداد ثقله على الطبقات الشعبية الفلسطينية بشكل لا يطاق. كما تعطي آلية المخرج هذه مجالاً لبقاء سلطة للادارة الذاتية بشروط سياسية لا تخضع للاحتلال الاسرائيلي. في كوسوفو كان وجود قوات حماية دولية آلية للخروج من الازمة، فلم لا يكون وجود هذه القوات مخرجاً من حالة المراوحة التي تخدم الاحتلال الاسرائيلي!
* كاتب فلسطيني