في مقالٍ أخير له، يذكّر الفيلسوف الفرنسي آلان باديو بأن الايديولوجيا النيوليبرالية ليست عبارة عن محض وصفات اقتصادية وادارية، تروّجها وتدافع عنها، بل هي أساساً نظرة الى العالم تجعل هذه الوصفات والسياسات بديهية ومنطقية ولا يمكن تجنبها.يمكن مقاربة الايديولوجيا الطائفية من المنظار نفسه، فمن يرى نفسه في عالمٍ مكوّن من طوائف وملل، فيها الـ «نحن» والـ «آخر»، تتصارع وتتنافس، يغدو من الطبيعي له أن يعتنق عناصر الخطاب الطائفي وأن يرى في كلّ الأحداث التي تجري حوله طوائف تتنازع، وأن يفسّر عالمه السياسي عبر هذا المنطق. ساعتها تصير «العقلية الطائفية» بديهية ومنطقية، ويصير الفارق بين الخطاب الطائفي الكاره و»المعتدل» نافلاً، الى حد ما، طالما أن الاثنين ينطلقان من النظرة نفسها.

من هنا يمكن لنا أن نفهم معنى «داعش» اليوم، وهي تنتشر من المشرق الى مصر وشمال افريقيا، وغيرها من الأقاليم. فالصورة القديمة عن «القاعدة» وخطرها، باعتبارها تنظيماً يجذب المتطرفين ويجنّدهم، ومكافحتها تكون – بالتالي ــــ عبر ضرب بنيتها وقادتها، قد ثبت بطلانه مع صعود «داعش» ونسخاتها المتعددة، بشكل مستقل عن التنظيم «الأم».
صار هناك اليوم «نموذج داعش»، وهو عبارة عن عقلية ونظرة الى العالم أكثر مما هو تنظيم ورجال. نحن نتكلّم عن حزمة عناصر أصبحت جاهزة للاستعمال في سياقات واماكن مختلفة، بينها فقه عملي ومفهوم عن السياسة والشريعة، وصولاً الى التكتيكات العسكرية وأساليب التنظيم، والشعارات والجماليات. و»ثقافة داعش» هذه يمكن، بالتالي، استنساخها وزرعها في مناخات متعددة، وهي تلقى قبولاً – بل وشعبية حقيقية – ولا يمكن تصويرها كمجرد منفذٍ للمتطرفين وشذاذ الآفاق.
هذه العوامل كلها لم تنشأ مصادفة، ولا هي «صرخة المقهور» كما يتصور بعض السذّج، بل هي نتيجة حروب وتدخلات وتعليم وتمويل، امتدّت من الجزيرة العربية الى بيشاور، واستلزمت مليارات الدولارات حتى تبني «عالم ابن تيمية» وتصنع ثقافة رائجة يتآلف معها الملايين، فتصبح «داعش»، وأفعالها، طريقاً بديهياً و»شرعياً» للكثير من المسلمين المؤمنين.
لا أدلّ على ذلك من الجدالات التي جرت مؤخراً حول ابن تيمية واقتباس فتاويه لتبرير جرائم «داعش»؛ فقد انبرى العديد من الاسلاميين «الوسطيين» كي يشرحوا أن المشكلة ليست في ابن تيمية، بل في «استخدامه». هكذا، تحوّل الاسلاميون فجأة الى ما بعد حداثيين، يعتبرون أن «النص» لا يحوي معنى ثابتاً، وما هو الا تفسيرنا له، وأننا نخلقه من جديد كلما قرأناه – مذكرين بأن نصوصاً وأدياناً مختلفة قد استعملت لتبرير القتل وتشريعه.
هؤلاء همّهم تجنب النقد الحقيقي، ولو حتى بالتصريح أن أدبيات ابن تيمية قد صدرت في زمنٍ وسياقٍ معيّن، ولا مجال لنقلها الى الحاضر (والا، فانّها بالفعل تشرّع أموراً فظيعة ــــ اقرأوه). المشكلة مع التفسير «ما بعد الحداثي» هذا هي أنّ أصحابه لا يأخذون خطابهم الى نتائجه المنطقية: طالما أن النص غير ثابت وغير موجودٍ الا في أذهاننا، فلماذا نستند على نصوصٍ أساسا؟ أليس من الأنجع، في هذه الحالة، أن نعتمد ببساطة أحكاماً عقلية ومنطقية ونترك ابن تيمية في عالمه؟