لا معنى لعيد الحبّ: هي مناسبة تجاريّة طلعت بها شركات الشوكولاتة وبيع البطاقات الجاهزة (وكأن موظفّاً في «هولمارك» يستطيع ان يعبّر عنك عن عواطفك نحو محبوبتك (أو محبوبك). كان مصطفى أمين يزهو أنه هو الذي أتى بهذا العيد إلى العالم العربي من أميركا. كأن يزهو المرء باستيراده الوجبات السريعة إلى بلاد عريقة في المأكولات والأطباق المُعقّدة. لكن الشعب في لبنان محروم من عيد الحبّ - مع أن الحب لا يحتاج إلى عيد أو أنه حالة مستدامة عندما يتحقّق - لأن آل الحريري آلوا على أنفسهم ان يجعلوا من يوم فرح مناسبة جنائزيّة تقنط اللبنانيّين واللبنانيّات كل سنة. الذين يحبّون الحياة يحتفلون بعيد الحب عبر زيارة القبور والحديث المدفوع عن الموتى فيما يحتفل بالفرح والحبّ من حكم عليه أنه لا يحبّ الحياة.
بعيداً من السياسة يمكن ان نحكم على عروض آل الحريري السياسيّة. من يصمّم للعائلة حفلاتها الجنائزيّة كل سنة؟ تستشفّ بعضاً من احتفالات العائلة الحاكمة في كوريا الشماليّة ممزوجاً ببعض من مهرجان الجنادريّة، وممزوجاً أيضاً بحفلات «موريكس دور» التي توحي بتقليد مبتذل وباهت لحفلات هوليووديّة مبتذلة وباهتة. هناك جهد فظيع في الوقوع في الفجاجة. ومن ينجح أكثر من استعراضات الحريري في قلب المعاني والمغازي: الجمال يصبح قبحاً، والطرب يصبح نشازاً، والعفويّة تصبح اصطناعاً، والـ«راب» الذي له تاريخ طويل في تحدّي السلطات والحكم والجوْر القائم يصبح في حفل الحريري مغنى لأصحاب المليارات.
لماذا يظنّ البعض ان
قراءة نصّ مع فقرات مصوّرة تصبح فيلماً وثائقيّاً

ومناسبة 14 شباط ومناسبة 14 آذار (هل سيغزون أيّاماً أخرى من السنة التي تتضاءل في قيمتها بسبب استغلالهم؟) كانت أوّل ما كانت حملة دعائيّة باهظة الثمن: أموال أميركيّة وسعوديّة وبريطانيّة طائلة ساهمت في صنع حدث سياسي واستغلال تفجير لغايات سياسيّة صريحة. إن رفيق الحريري آخر هموم رعاته العرب والغربيّين. هو اسم يصلح من أجل التأجيج المذهبي والطائفي ومن أجل تمرير سياسات اقتصاديّة وخارجيّة وداخليّة تلائم العدوّ الإسرائيلي ومصالح الاستعمار. أفلام وأغاني وعروضات ومسيرات وتظاهرت تولّدت بفعل إرادة الخارج وسهولة التحريض الطائفي والمذهبي في مسخ وطن مثل لبنان. كما أن فريق 8 آذار لعب بغبائه دور القابلة القانونيّة والحاضنة لفريق 14 آذار.
ولم يعد رفيق الحريري هو رفيق الحريري. اخترعوا رفيق حريري آخر. والحريري المُتخيّل لا يمتّ بصلة إلى رفيق الحريري الأوّل. أزيل من العقول تاريخ طويل من الارتهان والتملّق للنظام السوري. ينسى هؤلاء انه كان المساهم الأوّل فيما تسمّيه أجهزة دعاية الحريري بـ«النظام الأمني السوري ــ اللبناني». كان هناك متغيّرون، وكان هو الثابت إلى أن وقع الخلاف بين النظام السعودي والسوري. الحريري البطل الشجاع الذي ناضل بقوّة ضد النظام السوري - في سرديّة ما بعد اغتياله - لم يقل كلمة سوء ضد النظام السوري في حياته. طبعاً، عارفوه يعلمون ما لم نكن نعلمه: رفيق يقول عكس ما يضمر، ويقول عكس ما يريد. كان بمعنى آخر جباناً في مواقفه السياسيّة لا يجاهر بمكنوناته إذا لم تكن متوائمة مع السلطة السوريّة الحاكمة. لكن المناسبة التي مرّت تحتاج إلى مزيد من تسليط الضوء. في ما يلي، تناول نقدي لثلاثة مسلسلات «وثائقيّة» عن الحريري مرّت على الشاشات اللبنانيّة (مجاناً؟):
1ــ كلام الناس: كل ما في هذا البرنامج يفوح برائحة الإعلانات السياسيّة والتي تحتاج إلى إعلان خاص حسب القانون هنا من أجل تعريف المشاهد ان ما يراه (أو تراه) ليس إعلاماً بل إعلاناً. كيف تفسّر تلك الحلقات التي كرّسها مارسيل مثلاً لمخترع دواء سرطان من هنا، ومخترع دواء للإيدز من هناك، وحلقة خاصّة عن كيفيّة تتويج للّو المرّ رئيساً أوحد لـ«صندوق وعلب الإنتربول لعالم أكثر نفاقاً وكذباً». (ماذا حدث لهذا الصندوق ودوره، بعد أن روّج المرّ في البداية - ربما لجهله اننا نعيش في عصر «غوغل» (غَوْغَل، يُغوغِلُ) بأنه أصبح رئيس منظمّة الـ«إنتربول» بحالها لأنه كافح أيما كفاح عبدة الشيطان في لبنان، واستضافه صديقه مارسيل للثناء عليه على مدى ساعات طوال).
يجب تدريس برنامج «كلام الناس» في كليّات الإعلام في مادة الفساد في الإعلام اللبناني. ويجب تدريس أداء مارسيل غانم (وبث مقاطع من مقابلاته) من أجل ان يتاح للمشاهد التمييز بين المقابلة العاديّة (مع ممثّلين عن فريق 8 آذار) والمقابلة (مع الأثرياء والأمراء ومع آل الحريري وتوابعهم). يكفي في الملاحظة الأوليّة ان برنامجاً طويلاً يتخطّى الساعة لا يتضمّن مقابلة واحدة مع معارض واحد لرفيق الحريري في برنامج سياسي إعلامي عن رفيق الحريري. وجهة نظر واحدة فقط تسود في برنامج ساعات يزعم انه يدخل في حقل الإعلام المهني الرصين. ولا معارض واحداً للحريري في مدّة البرنامج بطوله. ثم يمرّ أمام ناظريك أفراد من عائلة الحريري وافراد ارتبطوا ويرتبطون ماليّاً برفيق الحريري أو مع مَن أتى بعده. هو يستضيف عضواً في حركة أمل أو جنبلاطيّاً لكن مِن فرقة مَن انشقَ عن فريقه السياسي ليلتحق بركب الحريري. في أميركا هنا (وأنا لا أعتبر ان الإعلام الأميركي خال من الفساد أو انه يُحتذى به، على العكس أسوق المثال بسبب عدم احترامي للإعلام هنا لكن لعلمي ان الإعلام الأميركي يُعتبر مُحتذى في بلادنا، وعن خطأ) يحتاج الارتباط المالي مع الرجل السياسي إلى التصريح في شريط تحت صورة الشخص في المقابلة: ما يُسمّى بتضارب المصالح في التعبير عن رأي «محايد»، مفترض. وعندما أشاهد وليد جنبلاط يتحدّث عن الحريري ألا يفترض التقرير ان هناك منّا مَن يتذكّر ان جنبلاط هذا كان يتهم في حقبات محدّدة الحريري بأنه عميل لـ «الموساد» أو «سي. آي. إيه» أو الاثنيْن معاً؟ لماذا يفترض من يتولّى شؤون الدعاية في 14 آذار أن الكل في لبنان تعرّض لضرب من النسيان السياسي الوقائي، على طريقة فيلم «رجال بالأسود»؟ وهذه رواية عن وليد جنبلاط: بعد اغتيال الحريري أردتُ مقابلة بعض الساسة ممّن عرفوا الحريري، وبينهم مسؤول «مرجع» رفيع. روى لي: مرّة كان ينزل في فندق «الشيراتون» في دمشق هو ووليد جنبلاط في الثمانينيات. سمع الإذاعة وسمع تصريحاً لجنبلاط يتهم فيه الحريري بالعمالة لإسرائيل. سأله: سمعتُ تصريحك. ما الخطب؟ هل توقّف عن الدفع لك؟ فأجابه جنبلاط: توقّف. سأله «المرجع»: كم دفع لك إلى الآن. أجابه جنبلاط: صراحة نسيت المبلغ، إما 40 مليون أو 70 مليون حينها على ما اذكر - (الكلام هنا لي وليس لجنبلاط). هذا هو وليد جنبلاط وهذا الجانب من العلاقة بين الحريري وجنبلاط (أو بين الحريري وغيره من الساسة) لا يتم التطرّق إليه، ولو بعد عشر سنوات من موت الحريري. إلى متى هذا التكاذب؟ حتى متى؟ ثم ترى داوود الصايغ وتتذكّر أنه كان الناطق الرسمي باسم وفد 17 أيّار المشؤوم. كان المستشار المُقرّب من رفيق الحريري للشؤون المسيحيّة الطائفيّة متحدّثاً باسم الوفد اللبناني للمفاوضات مع العدوّ الإسرائيلي. وتراه على الشاشة وتقول: يقولون إن الحريري كان يحيط نفسه بالأذكياء وها هو الصايغ أمامك. لكن ألم يصبح جوني عبده الذي كان يستضيف أرييل شارون في بيته واحداً من أقرب مستشاري الحريري، وفي وقت مُبكّر جدّاً من مسيرة الحريري السياسيّة؟ ثم ترى نادر الحريري للمرّة الأولى على الشاشة، وتدرك مدى تأثير الدعاية السياسيّة علينا. سمعنا الكثير عن نادر الحريري وعن كفاءته وعن ذكائه الحاد، ثم تراه امامك يتحدّث على الشاشة وتتوقّع ان يكون عقله في مستوى يتراوح بين عقل ابن سينا وعقل الفارابي، وإذ بك ترى مَن يذكّرك بعقل في مستوى يتراوح بين خالد زهرمان وبدر ونّوس. يبدو ان أحمد الحريري وجه السحّارة في العائلة. لكن الحكم على أولاد الأثرياء يختلف عن الحكم على أولاد العامّة: لو أن واحدهم أكمل جملة واحدة في ساعة من دون أن يسيل لعابه لقالوا: «فلتة عصره. يقبر أمّه. أينشتاين وُلد من جديد».
نادر روى حكماً عن الحريري وواحدة جاء فيها: أنه استوقفه ذات يوم وسأله عن مستقبله الدراسي وأمره بأن يدرس في الجامعة الأميركيّة في بيروت وليس في أميركا، فأطاع. هذا نموذج عن بدائع وطرائف وحكم الحريري. وعندما تحدّثت منى الهراوي عن علاقة زوجها برفيق الحريري قالت إنهما كانا يكمّلان بعضهما بعضاً. بحق. واحد كان يدفع، والثاني كان يتلقّى. وبعد حديث وجيز منها وصف مارسيل كلامها بأنه «أجمل ما قيل»، وهي بالكاد تكلّمت، ولم تأتِ بجديد. وأتى مارسيل بمحمد عبد الحميد بيضون (الذي كان، قبل طرده من حركة «امل» شديد النقد لمشروع الحريري) كي يكتمل المشهد من الوجهة الطائفيّة. ويجب التنويه بموسيقى المصاعد (جمع من الكمان والبيانو وحتى القيثارة الغربيّة) التي تصاحب تقارير البرنامج في محاولة لاستدرار الدموع.
2ــ «زمن رفيق الحريري» لجورج غانم: هو أسلوب مارسيل نفسه. ولماذا يظنّ البعض ان قراءة نصّ مع فقرات مصوّرة تصبح فيلماً وثائقيّاً لو كانت نبرة القراءة تحاكي لهجة وصوت البرامج الوثائقيّة عن الحرب العالميّة الثانية. لم يمرّ معارض واحد للحريري في فيلم وثائقي عنه. ولا واحداً. هذا يدخل حقل الدعاية حكماً. لكن أخطر - على قول أحمد فتفت - ما مرّ أن جوني عبده (السيّء الذكر دائماً) عندما قال بصريح العبارة: إن كلّ من ينفي مشاركة رفيق الحريري في الإعداد للقرار 1559 هو كاذب، وأن الحريري كان فرحاً بالقرار وشارك في صنعه. هذا مهم: لأن رفيق الحريري وكل فريقه نفوا نفياً قاطعاً وبإباء وشمم ان يكون الحريري قد شارك في صنع القرار، ونذكر ان مروان حمادة كان دائماً يسخر من فكرة ان الحريري شارك في طبخ القرار مع المُرتشي جاك شيراك. هذا هو الطريف في فريق الحريري: يصرّون على كذبة ما لمدّة سنوات، ثم تكتشف أنهم يعترفون بأنهم كذبوا - بطريقة غير مباشرة - بعد سنوات من الكذب. هذا مهم: أي أن الحريري الذي ندّد في العلن بالقرار 1559 كان في الحقيقة مُشاركاً في صنعه. هذه للتاريخ. وفيلم جورج غانم جعل من الحركة العمّالية النقابيّة المعارضة لاقتصاد الحريري مجرّد أداة بيد النظام السوري مع ان النظام السوري عبر أدواته في الحكومة (يشين الحزب السوري القومي الاجتماعي انه كان واحداً من تلك الأدوات) في قمع الحركة العماليّة. كيف تصبح المطالب الاقتصاديّة المُحقّة جزءاً من مخطّط النظام السوري الذي فرض سياسات الحريري الاقتصادي بالقوّة. لكن الفيلم جعل من حرمان الحريري من السلطة المطلقة (أي رفض حافظ الأسد إعطاءه الصلاحيات الاستثنائيّة كي يحكم ملكاً غير متوّج) من أفظع المظالم التي أصابت لبنان. وأرادنا نهاد المشنوق ان نبكي عندما وصف لنا كيف تدحرجت دمعة على خدّ الحريري عندما حرمه حافظ الأسد من السلطة الملكيّة المُطلقة في حكم لبنان. يا للظلم. مسكين هذا الحريري كم عانى. ومن المضحك كيف وصف غانم التغيير في عهد لحّود على أنه «تحوّل عنيف». لماذا يوصف كل إقصاء ديمقراطي للحريري (الأب أو الابن غير النجيب) على أنه عنف وإرهاب؟
3ــ فيلم «لعيونك» على «الجديد». هذا برنامج أعدّ في عجالة - وكان ذلك واضحاً - وإن كان مُعدّاً من قبل إعلاميّيْن ماهريْن يجيدان الصحافة المكتوبة والمتلفزة، وهذا نادر في الجيل الجديد من الإعلاميّين والإعلاميّات. ستة أيّام لا تكفي لإعداد برنامج من هذا النوع خصوصاً على ضوء الملايين التي أنفقت والساعات والأيّام التي رُصدت للتسويق والترويج لرفيق الحريري، في حياته وفي مماته. لنقرّ أولاً: هذا الوثائقي الوحيد الذي لم يكن مملاً، وهذا الوثائقي الوحيد الذي تضمّن أكثر من وجهة نظر واحدة. لكن، أسئلة عديدة: لماذا «السكايب» مع صاحب المحطة، تحسين خيّاط؟ لم يكن الأمر ضروريّاً أبداً، وبدا وكأنه مجاملة نحو صاحب المحطّة. لكن العجيب ان هذا الوثائقي - وهو الوحيد الذي يمكن أن يُعتبر وثائقيّاً عن الحريري وإن شابه علّات - لم يعرض إلا معارضاً واحداً للحريري. في الوثائقيّات في أميركا، مثلاً، يقيسون بالدقائق والثواني مدّة ظهور أصحاب وجهات نظر متعارضة. وبهذا المقياس، طغى مريدو الحريري عليه. محمد فنيش لم ينتقد الحريري بكلمة، ونحن نعلم ان الحزب لا ينتقد الحريري لاعتبارات شتّى. حتى فنيش أثنى على الحريري (لكن ما قاله إن العلاقة بين الحزب والحريري تقاربت بعد تفاهم نيسان ليس دقيقاً، بقيت العلاقة سيّئة لا بل ساءت بعد انتخاب لحّود لأن وصول لحّود فصل بين فريقيْن في السلطة: فريق موال للحريري وآخر للحّود، وكان الحزب دوماً متحالفاً مع فريق لحّود). اختيار مصطفى ناصر لم يكن موفّقاً، تحدّث عن طفولة الحريري وهو لم يعرفه في شبابه وحداثته، يعني ما رواه كان درجة ثانية من السرد. كان يمكن الاستعانة بأصدقاء الصبا له. والحديث عن قوميّة رفيق الحريري وعن نشاطه في حركة القوميّين العرب بات ممجوجاً. لم يتعدّ نشاط الحريري سنوات المدرسة الثانويّة، وهو اعترف في مقابلة على محطته أنه انشقّ عن المحور الناصري في الصراع الإقليمي العربي وانضمّ إلى المحور السعودي بمجرّد ان وطأ أرض المملكة، مبدئي المرحوم. لم يقم الحريري بأي نشاط قومي أو ناصري بعد سفره إلى السعوديّة، خلافاً لرواية مضحكة لغسّان شربل عن أن الحريري أنقذ وديع حدّاد، أو سيّارته. المقابلات - ربما بسبب سلق البرنامج - كانت تحتاج إلى «تحرير» وإلى استجواب الضيوف لا إلى الاستماع لهم وهز الرأس علامة الإصغاء، خصوصاً في مقابلة فتفت. ما معنى ان يُسمح لأحمد فتفت ان يروي بطولاته هو، وان ينسى ان موضوع الحلقة كان عن الحريري، خصوصاً ان فتفت معروف بعدم احترامه للحقيقة في السرد. لكن تحرير الأفلام كان ملك رامي الأمين وجاد غصن، لكنهما أهملا المهمّة هنا. ما معنى قصّة فتفت عن تحدّيه للنظام السوري في خوض الانتخابات. أما كانت ممكنة الاستعانة بالأرشيف من أجل تظهير النفاق المُأرشف؟ أما كان ممكناً عرض تصاريح وخطب لفتفت وغيره من أبطال معارضة الجيش السوري - بعد خروج الجيش السوري من لبنان - من أجل المقابلة بين الزعم والحقيقة؟
واختيار عبّاس إبراهيم كان مُوفّقاً. ليس بسبب معلومة معيّنة بل لأن الرجل الذي يظهر اسمه في الإعلام كثيراً لا يعطي التصاريح، خصوصاً أن محطة «الجديد» تبدو متيّمة به. هي جعلت منه رجلاً خارقاً كاد ان يطير إلى أفريقيا لهزيمة «الإيبولا». لكن اللافت انه غير مملّ و«حبّاب»، على ما يقول الشوام. لكن ما هي طبيعة علاقته بالحريري؟ لم يكن ذلك واضحاً، وإن لمّح إلى صداقة (هل كان هناك مَن لم يكن صديقاً لرفيق الحريري في حياته؟) مع أنه لمّح أيضاً إلى أنه لم يكن مثل غيره يضعف أمام مال الحريري. لكن ما طبيعة العلاقة بين ضابط رفيع في الجيش اللبناني (آنذاك) ورئيس الحكومة (أو قبل ان يصبح رئيساً للحكومة)؟ هل كان ذلك خارج الوظيفة أم ضمن الوظيفة، وهل تمّ ذلك بعلم مرؤوسي إبراهيم؟ لكن روايات إبراهيم عن الحريري لم تكن على الأقل من صنف بطولات فتفت الوهميّة.
بات من المستحيل الحديث عن الحريري من دون التأثّر بكم هائل من الدعاية السياسيّة الفجّة عنه. لم يعد الرجل الأسطورة على علاقة بالرجل الحقيقي. نجح فريقه السعودي في تحويله إلى ظاهرة على تضاد مع مسيرة وخطاب الرجل السياسيّة. اما الكلام عن ان مواقفه الضمنيّة غير العلنيّة تشفع له فهذا لا يشفع له بتاتاً، وإنما يدلّ على عدم مروءته. والكلام عن نزيف في أنفه بسبب تقريع قادة الأجهزة الأمنيّة السوريّة له لا يفيد في تسويق الأعذار له بل يزيد احتقار مَن يسعى إلى السلطة (والثروة التي يبنيها من خلال السلطة واستغلالها) على حساب كرامته وعزّة نفسه. وفي شهادة صديقه عبداللطيف الشمّاع في محكمة الحريري الدوليّة الكثير عن اعتماده على الرشى في علاقته مع الساسة وقادة الأجهزة الأمنيّة. وإذا كان رستم غزالي مذنباً بحكم ممارسات المخابرات السوريّة في لبنان، فإن الحريري الذي كان يمدّه بالمال دوريّاً هو شريك مباشر له. ومن يريد ادانة «النظام الأمني السوري ــ اللبناني» عليه ان يدين تجربة الحريري. لكن ليس هناك من فيلم وثائقي أو كتاب عن ذلك. علينا ان ننتظر زمناً آخر. لعلّ صورة الحريري الحقيقيّة تتقدّم بعد نفاد المال. لكن فات الأوان: أثبت الرجل أنه شديد الأذى والضرر على لبنان والمنطقة في الممات، أكثر مما كان في الحياة، وورثته على درب الضلالة سائرون... بهدى وهّابي.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:angryarab.blogspot.com)