أبا ياسراعذرني إن تأخرت في الكتابة عنك. فأنا لم أصح بعد من صدفة الرحيل المباغت. معاً كنا في طنجة. كان السفر شاقاً. ثلاثون ساعة أمضيناها بين الطائرة والباص، ولم يبد عليك ما يدل إلى توعك خطير لولا الوجع المزمن في الظهر، الذي كنت تداويه بالمسكّنات والعلاج الفيزيائي ورياضة المشي. جازماً كنت في رفض الخضوع لعملية جراحية.

في الطريق من الدار البيضاء إلى طنجة استمعت إلى تعليقات سياسية حادة سببت لك انزعاجاً داريته بالصمت. ولأن المسافة طويلة، وجدت ان السبيل الأفضل للخروج من هذا الجو، هو الانتقال إلى عالم الشعر والأدب، واستذكار روائع ما جادت به قراءة العرب القدماء. وكان في رحلتنا، التي استغرقت ساعات أربعاً، محطة للشعر العامي، واكتشفت انك من الذواقة الذين يقيمون لهذا الشعر وزناً، ويفسحون له في محفوظاتهم، وخصوصاً عندما أعدت على مسامعنا قصيدة علي الحاج القماطي، التي انشدها ذات عشية رمضانية في جونيه، عندما حلّل له سحر الحبيبة الخمرة.
أذكر أنك أصغيت بانتباه إلى ما ذكرته من مقتطفات منتخبة من أشعار: إلياس النجار، طانيوس عبدو، موسى زغيب وخليل روكز. وفاجأتني عندما ناولتني ورقة طالباً تدوين هذا البيت من العتابا لنجار: قصد ليلى الهوى ليلاً غزلها/ لفي بسريرها يسمع غزلها/ قطف من شعرها خصلي غزلها/ شلحها عالقمر طلعت حجاب.
لم تخف اعجابك بالمخيلة المبدعة لهذا الشاعر، ولأسلوب تخيّره الكلمات والمعاني، واعتبرت بيت العتابا هذا صورة لعبقرية الشاعر العامي الذي يجاري، بل يفوق أحياناً، فحول الشعر الفصيح.
في «بيت الصحافة المغربية» بطنجة، حيث مثّلنا معاً نقابة المحررين في اجتماع المكتب الدائم لاتحاد الصحافيين العرب، كان إصرار على أن تكون إلى جانب الزميل فخري أبو حمده من الاردن في لجنة صياغة البيان الختامي. لم يتسّن لك متابعة البرنامج السياحي الذي أعدّ لنا في طنجة وأصيلة، لانشغالك في ملاحقة حقيبتك التي ضاعت بين مطاري إسطنبول والدار البيضاء قبل أن تصلك... آمنة، لكنك شاركت بالقدر الذي أدخل إلى قلبك بعض الانشراح، سواء في أحد أحياء أصيلة القديمة المحصنة داخل السور البرتغالي، ومنها شاهدت بأم العين آخر نقطة لغروب الشمس في الوطن العربي.
لم تخل الرحلة من بوح حميم، أُمسك عن إيراده يعكس شفافة روحك، وعمق محبتك للبنان واللبنانيين من دون استثناء، ووفاءك للأصدقاء، لكن الفرح الحقيقي كان يسكن عينيك عندما حدثتني بشغف عن المنزل الذي شيدته في «عيتا الجبل» وحنينك إليه، وحيرتك أمام مشكلة «النش» فيه. بيت تحوطه حديقه غنّاء طالما طاب لك الجلوس فيها تحت صنوبرة شامخة تتصفح كتاباً على «فنجان قهوة... وسيجارة». شكوت من ندرة تردد الأبناء إلى البيت الجبلي، فأجبتك «لا عليك... كلنا بالهوا سوا... هيدي موضة العصر...».
وفي مطار بيروت ودعتني، تواعدنا على اللقاء يوم الاثنين، في مصرف لبنان لزيارة حاكمه مع نقيب المحررين الياس عون، مجلس النقابة، لكن نعيك كان أسبق، بل كان مدوّياً، لم احتسب أن يد المنون كانت تتحيّنك لتنتزعك من الحياة التي تليق بك، وتليق بها، وأنت في عزّ العطاء.
هذه الصور قفزت إلى خاطري، وقاسمتني الدمع، وأنا أسير خلف نعشك على طريق جبانة «عيتا الجبل». هكذا يواري بعضنا بعضا. و«يبكي بعضنا على بعض معاً». نحمل نعشنا ونمشي إلى حفرة العدم، حيث لا تعب ولا ألم.
أبا ياسر
لا تكفي كل دموع الأرض في بكائك... ولا يتسع معجم الحروف لعقود الكلم في رثائك... حسبك من دنياك أنك عشتها شامخاً، وغادرتها كسنديانة اقتلعتها عاصفة هوجاء... فهوت مخلفة الدوي الذي سيظلّ متصادّياً في الذاكرة ما حيينا.
جوزف قصيفي
أمين سر نقابة المحررين