منذ قرون، حين بدأ مفكّرون أوروبيون بنقد الحكم المطلق والتجرّؤ على مفهوم سيادة الأمير وحقّه الإلهي، كانوا، بدءاً بتيودور دو بيز، يصيغون حججهم من منطلقات مختلفة، سواء لاهوتية، أم قانونية ومصلحية، أو مرتكزةً على مفهوم الحق الطبيعي. الّا أنّ هناك حجّةً شاعت في وقتٍ كان يصعب فيه على الكثيرين تصوّر العالم من دون "نظامه الطبيعي"، الذي ينظّم المجتمع ويعطي للسلطة معنىً وشرعية، وعلى رأسه الملك، ومن ثم الإقطاع والإكليروس. كانت الفرضية تقول الآتي: فلنتخيّل انّنا استيقظنا غداً، وقد اختفى كل رموز السلطة في المجتمع. الملوك والأمراء والإقطاعي والكاهن. كلّهم تبخّروا فجأة؛ فهل سيتوقف العالم؟ السنابل ستظل تنمو في الحقول، والأحصنة تجرّ العربات بين القرى والمدن، والعامل سينصرف الى عمله كالعادة، ولن يتغيّر شيء جوهريّ في حياة المجتمع. ولكن، هل من الممكن أن نطبّق السيناريو ذاته على الفلاحين، أو العمال والبنائين، أو التجار والمهندسين، وأن نتخيل الحياة من دونهم؟
حين نتكلّم عن الطبقة الوسطى وما يسمى بـ "الكومبرادور"، المالي والثقافي، في بلادنا، ويجري "التفاوض" مع طموحات هذه الفئة ومطالبها؛ وهي تعطي نفسها، بكلّ أريحية وثقة، دور "زبدة المجتمع" التي تجلس في مركز القيادة، و"تعلّم" الشعب وترشده سياسياً (وحين تتكلّم، فكثيراً ما تفعل باسم "الشعب" ككلّ)، فقد يفيد استخدام المثال أعلاه. ماذا سيحصل لو استيقظنا غداً ــــ في فنزويلا أم في أيّ من الدول التي ليست دولاَ ــــ ووجدنا أنّ كلّ المثقّفين المحليين، والصحافيين، و"الخبراء" و"الباحثين"، والمصرفيين، والعاملين في الشركات الأجنبية، وموظفي "المجتمع المدني" والتمويل السياسي الأجنبي (وهؤلاء أصبحوا، في ذاتهم، فئة لا يستهان بحجمها في الجيل الصاعد من الطبقة الوسطى في أكثر بلاد العرب)، كلّهم كلّهم، قد اختفوا فجأةً، فما هي المصيبة التي ستعصف ببلادنا مع تبخّر "القطاع الحديث"؟ هل سنخسر قطاعات منتجة وشركات عالمية؟ هل سنفتقد لأفلامٍ وموسيقى وثقافة راقية؟ هل ستتوقف المفاعلات النووية عن العمل، أم تضطرب الخطط الخمسية للتنمية؟ (منذ فترة، في مثالٍ شهير، وقعت السلطة التنفيذية في لبنان في شللٍ كامل لأشهر طويلة، بحكومتها ومخططيها ومدرائها ومقرريها، ولم يحصل شيء، بل تحسّن وضع الاقتصاد).
كان من المفارقات التي أبرزها صعود "داعش"، وتحوّلها الى "دولة" لفترة ممتدة، هي أنّها أظهرت مقدار الابتزاز الذي تمارسه النخب "الحداثية"، والثمن الذي تتقاضاه مقابل وهم "ادارتها" للكيانات الهزيلة التي ابتليت بها. اذ أثبتت "داعش"، في ظروف حربٍ وصراع، أنّها أقدر من كثير من أنظمة الكيانات القائمة على أداء مهام "الدولة الحديثة"، من فرض القانون وحصرية العنف، الى تسيير الخدمات، وصولاً الى حسابات الاقتصاد والتمويل، واستخراج الضرائب من المجتمع. داعش "تمارس" الحداثة ولا تنظّر لها.
هذا الفارق بين المثال الغربي الذي تتقمّصه نخبنا، وبين وظيفتها الفعلية في المجتمع، هو الأساس لفهم هذه المعادلة. "نظرية التحديث" الكلاسيكية كان يفترض منظّروها أن دول الجنوب تخطو من نمط مجتمع "تقليدي" الى آخر "حديث"، وأن عملية الانتقال هذه تنتج ازدواجيةً في المجتمع، حيث هناك طبقة "حديثة" عقلانية وفعّالة، درست في الغرب أو على مناهجه، وتحاول أن "تدفع الى الأمام" مجتمعاً ما زال فيه "قطاعٌ تقليدي" كبير، لا يوافق على نظرة "التحديثيين" وأساليبهم. في الحقيقة، فإنك حين تنظر الى هذا "القطاع الحديث" في بلادنا، الى الجامعات التي تنتج جحافل من الخريجين بلا مهارات حقيقية، والإعلام الذي يديره هواة، والثقافة التي تتموّل من الرجعية ولا تنتج شيئاً، فإنّه يحقّ لك أن تتساءل: هل "التخلّف"، بمقاييس مدرسة التحديث، يكمن فعلاً في القطاع التقليدي ــــ الفلاح وعامل البناء وصاحب المخبز ــــ أم في هذه النخب المصطنعة؟ (هذا حتى لا نتحدّث عن أدوارها السلبية. الأكاديمي والمناضل الجزائري محفوظ بنّون، مثلاً، يوثّق كيف أفشلت هذه الفئات، في التجارة والاقتصاد، التجربة الجزائرية، والحكومة أرادت أن تجعلهم أثرياء مقابل لعبٍ دورٍ تنموي موازٍ، ولكنهم أرادوا أن يثروا بشروطهم وعلى طريقتهم).
أهمّ دروس فنزويلا كان أنّ نمط الحياة النيوليبرالي (باستهلاكه وسياساته وجمالياته وتقديسه للفردية والنرجسية) لا يمكن أن يتزاوج مع مشروعٍ يريد العدالة والتوزيع ــــ ناهيك عن مقاومة الهيمنة وخوض الحروب، وهي أساسيات السياسة في بلادنا ــــ وأنّ هذا "المثال" هو ليس مجرّد فكرة أو تيمةٍ ايديولوجية، بل تمثّله طبقة امتيازات مكرّسة، تتحكّم بمفاصل المجتمع، وهي تجددت وتوسعت في العقدين الماضيين.
منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، أصبح الحديث عن "القطع" مع النموذج الأميركي في السياسة والاقتصاد، والتشكيك بصورة "الحياة الجيّدة" التي تبثّها ثقافته، غير واقعيٍّ ومستهجن. وصار يُحال دوماً الى مثال كوريا الشمالية وانعزالها، ومثال كوريا الشمالية يحيل، حصراً، الى لغة السّخرية والتقريع (تقريع الكوريين الذين لا يقاتلون أحداً، لا من يحاصرهم ويحاربهم). مرحلة التسعينيات، حين غابت الخيارات البديلة وغاب الأمل، كانت كارثية؛ فيها وصل هذا "الانفتاح الايديولوجي" الى أقصاه، وصار من الطبيعي أن ندرس في الغرب، ومن الطبيعي أن يتوظف التقدمي في صحف الخليج، بل أضحى ابن الطبقة الوسطى الذي يعمل (لحساب شركة أجنبية) في دبي، هو وطموحاته واسلوب حياته، المثال لشباب المنطقة. لا شيء أدّى الى اختراقنا وارتداد النخب، وتضييع المحرّمات والخطوط الحمر، كتلك المرحلة. الخروج من الهزيمة لا يمكن أن يقوده وهم التصالح مع الغرب، ولا وهم تحدّيه عبر استنساخه (فهو لن يسمح لك بذلك). وإن شئنا أن نستمرّ بعقلية التسعينيات، فإن مصير فنزويلا ينتظرنا في نهاية الطريق، ولو انتصرنا في الميدان.