رأى الكاتب منيح الحمش** في الأحداث مؤامرة على سوريا وعلى القضية العربية برمتها، وأن العوامل الاقتصادية والاجتماعية استخدمت في ما آلت إليه سوريا (ص 6). ورأى أن الاقتصاد وقع أسيراً للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والظروف الملائمة للمؤامرة. وكان ثمة «جهل وبطالة وسوء توزيع للثروة واستئثار وهيمنة لقوى الفساد» (ص 7). وقد انتقد استمرار السياسات الاقتصادية والاجتماعية على المنوال نفسه بعد الأحداث. ودعا إلى «طرح مشروع مضاد للمشروع الليبرالي الاقتصادي الجديد» الذي يسوّقه «من أسهم في خراب سوريا وتدمير اقتصادها»، ومن أجل إثارة حوار وطني حول الموضوع (ص 8).
1. الاقتصاد السوري قبل الأحداث

خصص الكاتب الفصل الأول من الكتاب لعرض واقع الاقتصاد السوري قبل الأحداث. واستهلّه بعرض مكثّف للسياسات الاقتصادية السورية منذ الاستقلال. ورأى بعد استعراض التجارب السورية في ميدان السياسة الاقتصادية، أن هناك «كنزاً من التجارب التنموية تعطينا الكثير من الدروس وتسمح بوضع محاور لنموذج سوري للتنمية» (ص 16). وسمّى عدداً من التشوهات، من الفساد إلى غياب المشاركة، ووجود إدارة تولي الولاء أهمية أكثر من الكفاءة في تكوينها، والإهمال الذي طاول الريف ودور الجمعيات الفلاحية التي حالت دون صعود قيادات نزيهة، والتعليم الذي لم يتح ربط مخرجات التعليم باحتياجات التنمية، والسماح للدعاة الوهابيين بالعمل وسط أجواء محقونة بمشاعر الإحباط والغبن، وانكفاء الكثيرين عن ممارسة مواطنيتهم وطغيان النزعات الطائفية والمذهبية والعشائرية.
حذّر من فئة «رجال الأعمال الجدد» الذين لهم مصلحة في التحوّل نحو اقتصاد السوق الحرة

وعرض واقع الاقتصاد خلال تلك السنوات، تحت عنوان تمادي الإدارة الاقتصادية في إقرار توجهات عنوانها الاقتصاد الليبرالي الحر، في ظل شعار «اقتصاد السوق الاجتماعي»، والتركيز على الاستثمار في القطاعين السياحي والعقاري وتحرير الاسعار وخفض الضرائب ورفع أسعار المشتقات النفطية وخفض الإنفاق على التعليم والصحة والإنفاق العام بمجمله، والاهتمام بإقامة سوق مالية إقليمية في سوريا (ص 25). وقد انتقد الطريقة التي كان أعضاء الفريق الاقتصادي يطرحون بها الأمور، كأن تثار مسألة الدعم من خلال ربطها فقط بـ«الخسائر» التي تتكبدها الخزينة، وتحرير التجارة الخارجية من دون الأخذ في الاعتبار آثاره على الإنتاج الزراعي والصناعي، وخفض الضرائب على الأغنياء من دون ربطه بأثرها على إيرادات الخزينة (ص 27).
انتقد الكاتب الإصرار آنذاك على التوسّع في سياسات التحرير الاقتصادي وتسليم مقاليد الاقتصاد الوطني للقطاع الخاص (ص 23). واستخدم في ذلك خمس مقالات صدرت في 2009 في جريدة «النور». تختصر الفكرة القائلة إن «التحرير لا يمكن أن يسبق التمكين» النقد الموجّه لتلك السياسات. وقد ذكر رقماً خطيراً أشارت إليه إحصاءات غير رسمية أظهرت أن 70 % من معامل الألبسة الجاهزة كانت قد توقفت عن العمل خلال عامي 2008-2009 في حلب ودمشق (ص 24). وقد تناولت السياسة الاقتصادية على مدى عشر سنوات، خفض الحماية للاقتصاد الوطني من خلال إلغاء أنظمة الحصر بالقطاع العام والتقييد والمنع وخفض الرسوم الجمركية وإلغاء القيود الكمية. وهذا ما جعل المنتجات الوطنية تدخل سباقاً غير متكافئ مع المنتجات الأجنبية الأكثر تنافسية، ما «حكم عليها بالخراب والدمار» (ص 29).
وتحت عنوان نقد الحكومة الصغيرة أو حكومة الحد الأدنى، انتقد الكاتب خفض الإنفاق العام لأنه يعكس انحسار التزامات الحكومة تجاه المجتمع (ص 45)، ويدل على تراجع المجهود الذي تقدمه الدولة في مجال الاستثمار الإنتاجي (ص 47). وانتقد الرغبة بالتخلّص من القطاع العام بسبب الدعم الاقتصادي الذي توافره الدولة له، وخفض النفقات التحويلية ذات الطابع الاجتماعي، خصوصاً دعم أسعار السلع التموينية والضرورية (ص 48). كما انتقد إعادة النظر في تقديمات الضمان الاجتماعي والرواتب التقاعدية (ص 49).
وانتقد رهان الفريق الاقتصادي الحكومي آنذاك على الاستثمار الأجنبي، وعمله على تحرير تبادل السلع والخدمات وحركة الرساميل وسوق العمل لاجتذاب هذا الأخير (ص 56). وأشار إلى أن اندلاع الأزمة المالية العالمية في 2008 التي برّرت التشكيك في قدرة الأسواق المالية على تحقيق النمو وضمان الاستقرار، لم يثنِ عن افتتاح بورصة الأوراق المالية في دمشق (ص 60). وعدّد إضافة إلى ذلك سلسلة من الشروط التي يضعها الاستثمار الأجنبي للتوجّه إلى بلد ما، وهي غير متوافرة في سوريا، ما يجعل هذا الرهان خائباً من الأساس.
أشار الكاتب إلى تهرّب الفريق الاقتصادي من تعريف «اقتصاد السوق الاجتماعي» بعد اعتماده في المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث عام 2005، بل أكثر من ذلك، فإن «السياسات الاقتصادية والمالية والتجارية التي اتبعتها الحكومة، وُضِعت ونُفِّذت بعيداً من قرار القيادة السياسية» (ص 69). وإذا كان الأمر يتعلّق بالاعتراف بآليات السوق من دون المساس بهدف العدالة الاجتماعية، فإن ما حصل فعلياً لم يعكس ذلك. لم يدعم الكاتب النقد الذي قدّمه في هذا الإطار بكمّ من الوقائع المفحمة، ما أضعف حجّته. وقد بدت الأرقام المقدمة حول تطور معدلات الفقر والبطالة والنمو وازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء غير كافية (ص 73). وقد أشار مراراً إلى دور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في اقتراح الإجراءات السالفة الذكر. وفي ما خلا الإشارة إلى تقارير صندوق النقد الدولي تحت عنوان «مشاورات النقطة الرابعة» للصندوق، فإن الكاتب لم يتوسّع في شرح الكيفية العملية التي مارست بها هاتان المؤسستان تأثيرهما في السياسة الاقتصادية السورية.

2. الاقتصاد الوطني بعد ثلاث سنوات من الأحداث

أشار الكاتب إلى تلقّف القوى الخارجية التظاهرات التي طالبت بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ثم اتجاه الأحداث إلى العنف، مع عدم نفي المؤامرة على سوريا الموجودة منذ فجر الاستقلال (ص 75). وقد أشار إلى العقوبات التي كانت مفروضة على سوريا قبل الأحداث من دون تفاصيل حول أسبابها والضالعين فيها وتأثيرها. وذكر أن الأموال المهرّبة إلى لبنان فقط بلغت 11 مليار دولار وفقاً للإسكوا (ص 78)، واستعرض أرقاماً تضمّنتها البيانات الحكومية والتقرير الاقتصادي العربي الموحّد والمركز السوري لبحوث السياسات الذي أشار إلى خسارة اقتصادية إجمالية تعادل 143 مليار دولار حتى 2013 (ص 81). وقد تراجع الإنتاج الزراعي بشكل كبير وترادف مع ارتفاع هائل للأسعار، وأغلق 90 % من المنشآت في قطاع الصناعات التحويلية في حلب، و40 % منها في عدرا في ريف دمشق، وتراجع قطاع استخراج النفط بشكل كبير (ص 84). كما انكمش قطاع السياحة وقطاع النقل والقطاع المصرفي الخاص وقطاع الكهرباء وخدمات الماء والصرف الصحي. وكانت الصناعات التحويلية والاستخراجية والزراعة الأكثر تضرّراً. وقد لجأت الحكومة إلى تمويل عجز الموازنة من المصرف المركزي وبالاعتماد على الاستدانة من الخارج. وأشارت دراسة المركز السوري لدراسة السياسات إلى أن معدل البطالة بلغ في نهاية 2013 نحو 54 % من مجموع العاملين (ص 88). وكان مجموع النازحين إلى البلدان المجاورة نحو 2.35 مليون شخص في نهاية 2013، استضاف لبنان 36.5 % منهم. وأشارت تقديرات الأمم المتحدة إلى بلوغ أعداد النازحين خارج سوريا نحو 3 ملايين في آب 2014، وبلوغ عدد النازحين داخل سوريا ضعف هذا العدد (ص 89). وقد خلص الكاتب إلى القول إن الأحداث «سرقت من الاقتصاد السوري مسيرة أربعين عاماً من التنمية والعمل التنموي» (ص 91).
وفي الاستخلاصات من التجارب التنموية السابقة قول الكاتب إن إعلان شعار «تحرير التجارة الخارجية قاطرة للنمو» منذ التسعينيات شكّل بحد ذاته فضيحة (ص 96). ورأى أن هناك عاملين كان لهما الدور الأساس في إخفاق التجارب التنموية السابقة أولهما يتعلّق بمسألة النظام السياسي وأسلوب المشاركة الشعبية وغياب المساءلة وعدم احترام القانون، وثانيهما يتعلّق بتدهور مؤشرات العدالة الاجتماعية وتدهور الظروف المعيشية (ص 98).

3. نموذج تنموي وطني لإعادة الإعمار والتنمية

عرض الكاتب في الفصل الثاني من كتابه نموذجاً بديلاً من التنمية، على أساس أن «تنمية بلا رؤية مستقبلية لا مستقبل لها» (ص 109). وعرض منطلقات وركائز النموذج الوطني للتنمية والإعمار، والمعوقات، ودور الدولة وقضيتي العدالة الاجتماعية والمشاركة الشعبية، وكيفية التمويل. وانطلق من ضرورة إقامة تزاوج بين السوق والدولة، وردم أهم مظاهر الفجوة بين المجتمع السوري والمجتمعات الصناعية المتقدمة المتمثّل بالهوّة التكنولوجية، وإقامة حياة سياسية تسمح للمواطنين في المشاركة في تقرير مستقبلهم (ص 115). ورأى أن تجارب بلدان العالم الثالث تثبت أنه لا يمكن تحقيق تنمية في شروط من التبعية للنظام الاقتصادي العالمي، وأنه ينبغي اعتماد مبدأ «التنمية المستقلة» بمعنى «توفير حريّة الفعل للإرادة الوطنية» في مواجهة ضغوط الخارج وقيود المؤسسات والمنظمات الدولية، والاعتماد في ذلك على الموارد البشرية الوطنية والادخار المحلي، والتوليد المحلي للمعرفة (ص 116 و 124). ورأى أن يكون الانفتاح على الخارج متدرّجاً ولخدمة العملية التنموية. ورأى أن القطاع الخاص لم يقدّم استثمارات جدية، وأن الأجنبي منه ظل عاكفاً عن الاستثمار في سوريا، وأنه يتعيّن «الاعتماد الجماعي على الذات» من خلال التنسيق والتعاون ضمن إطار عربي، أو في إطار دولي كدول البريكس.
ورأى أن على البرنامج التنموي أن يعالج اختلالات مرتبطة بالخصوصية البنيوية للاقتصاد السوري، خصوصاً ما يتعلّق بتأهيل وتدريب العاطلين من العمل (ص 118)، وضرورة بذل جهد خاص للتصدي لتوسّع اقتصاد الظل، وضرورة إيلاء جهد خاص لتنمية المناطق الشمالية الشرقية من البلاد، التي هي مصدر للإنتاج الزراعي والثروة النفطية، ورفض طريقة «التشاركية» في إعادة إعمار وتأهيل البنى التحتية (ص 122).
وحذّر من فئة «رجال الأعمال الجدد» الذين لهم مصلحة في التحوّل نحو اقتصاد السوق الحرة، والذين «سيقفون ضد المسار المستقل المعتمد على الذات» (ص 128). كما حذّر من طريقة تمويل إعادة الإعمار التي اقترحها رئيس الفريق الاقتصادي السابق في سوريا، وتبلغ كلفتها 150 مليار دولار. وهي تقوم على الاستدانة، خصوصاً من البنك الدولي وبشروطه. وانتقد المقاربة للتمويل بواسطة «التشاركية» بين الدولة والقطاع الخاص في ميدان تنفيذ مشروعات البنى التحتية (ص 157). والحجة التي يقدمها في نقده للمقاربتين هي أن القطاع الخاص المحلي المعني بالتنفيذ سوف يلجأ إلى شركات أجنبية، ويكون عبارة عن واجهة لها، ويرتّب مديونية هائلة على الدولة. ويرى الدكتور الحمش أن القطاع العام يستطيع إذا توافرت له الكفاءات النزيهة أن ينفّذ المشروعات بكفاءة أعلى وتكاليف أقلّ (ص 158). ويبدو الإصلاح الإداري والمؤسساتي في ضوء ذلك، أولوية لإنجاح هذا النموذج للتنمية والإعمار. وقد اقترح إنشاء «صندوق خاص» تصب فيه موارد شتى لردم الفجوة التمويلية للتنمية والإعمار (ص 159).

ملاحظات ختامية

أسهم كتاب الدكتور منير الحمش في الإضاءة على لحظة مهمة في التجربة التنموية السورية، هي لحظة مصادرة فريق من التكنوقراط القرار التنموي، مستقوياً بعدة الشغل والحجج التي وفرتها له مؤسسات دولية اهتمّت بفرض حرية التبادل على المستوى العالمي، وربط البلدان النامية بسيرورة العولمة الليبرالية مهما كلّف الأمر. والمراقب من الخارج يتعاطف مع التجربة التنموية السورية لأنها وفّرت استقراراً لا يمكن اعتباره تحصيل حاصل في أي بلد من بلداننا. ويتعاطف معها القومي العربي لأنها جسّدت نجاحاً مؤثراً في المجال الديمغرافي لا يمكن من دون تحقّقه الحلم بمستقبل أفضل على المستوى الوطني. أما دفاع الدكتور الحمش عن الحمائية فهو في محلّه. لكن الدفاع عنها يكتسب قوة كبرى إذا تم إيضاح كيفية وضعها في خدمة التنمية، من خلال استخدامها أداة لدعم قطاع إنتاج الآلات. ذلك لأن بناء القاعدة التكنولوجية الوطنية، أي القدرة على إنتاج الآلات، هو البند الأهم في تعريف التنمية المرجوّة. وهذه الأخيرة لا تكون ناجحة إلا إذا حقّقت مشروع «تصنيع متأخر». ويمكن اعتبار الحمائية، وقيادة الدولة لمشروع التنمية التي تتطلّب إصلاحاً إدارياً ومؤسساتياً فعليَّين، معلمين رئيسيَّين في نموذج الدكتور الحمش المقترح للتنمية والإعمار.
* أستاذ جامعي
** منير الحمش: «الاقتصاد السوري من المحنة والكبوة إلى النهوض والتنمية: نموذج سوري للتنمية والإعمار»، دمشق، دار التكوين، 2014، 166 صفحة.