ما يمارسه الفلسطينيون هذه الأيام ليس سياسة، إنه يشبه السياسة، لكنه أضحى كابوساً يخوضه المحاصرون في معركة ضد الذات، فما إن تنتهي جولة من الحرب مع الاحتلال، حتى تبدأ الصراعات الداخلية التي تضيع كل التضحيات. وبقدر ما تكون التضحيات كثيرة والنتائج قليلة، يكون الخلل في الأداء والحسابات ظاهراً ظهور الشمس.
لا تزال حركة «حماس» و«فتح» في مربع التضاد الممل، ولا تجدان، حتى اليوم، أرضاً مشتركة للوقوف عليها سوى السلطة، التي لا تعدو كونها سبباً للنزاع على تقاسم الصلاحيات، تحت الاحتلال. والممل في هذا النزاع، أن خطاب كل طرف باتجاه الآخر صار «خشبياً»، ويمكن أي طفل فلسطيني أن يردد عناوينه.

كلما تتزاحم الأزمات على رأس «حماس»، تصعّد الأخيرة مواقفها ضد السلطة بإيصال التحريض إلى أعلى السقف، ما يصعّب عليها المناورة، ويعقّد على القواعد الشعبية تقبل فكرة أن المصالحة ممكنة؛ فـ«حماس»، هي نفسها التي تريد من محمود عباس أن يعطيها ما تشاء، وكانت، يوماً، قد دعت إلى مسيرات ألقيت فيها الأحذية على صوره. هي أيضاً من تريد من رامي الحمدالله أن يخدم بغزة، وفي الوقت نفسه تخوض دوراً أمنياً خفياً ضد «فتح»، فلا يعقل أن الفلتان لا يعرف في غزة إلا كوادر «فتح» وبيوتهم ويغضّ الطرف عن حاكمي البلد!
الإدراك الشعبي يفهم
أن أصل الخلاف هو على السلطة وليس بين برنامج مقاوم وآخر مسالم


«حماس» لا ترى المصالحة
مع «فتح» خياراً استراتيجياً،
بل خطوة موقتة حتى
عقد انتخابات

ما تقدم ليس دفاعاً عن «فتح»، فقد قيل في حركة التحرير الوطني، التي أصبحت مشروعاً للراتب والانبطاح أمام الاحتلال، ما قيل، وعرف منذ زمن ما لها وها هي اليوم تجني على نفسها وشعبها ما زرعته. فلا يطلبنّ أحد النظر إلى أخطاء غيره ليجبّ أخطاءه، لذا نسأل: لماذا «حماس»؟، ولماذا ينظر إلى مواقف هذه الحركة بعين الاهتمام أكثر مما تقوله السلطة؟ هذا السؤال ليس في أروقة «ما خارج حماس»، بل أيضاً يطرحه الحمساويون، قيادة وقاعدة. للأسف، الإجابة في الجسم الحركي تتخذ اتجاهين: الأول أن كل انتقاد أو ملاحظة على أداء «حماس» في الحكم والسياسة ما هو إلا «مهاجمة للمقاومة ودور الحركة الريادي» فيها، فيكفي أنها «خاضت ثلاث حروب ضد إسرائيل في ست سنوات»، مع أنها، للعلم، حروب لم تبدأها الحركة، بإقرارها هي، بل كانت «دفاعية»، بعدما أقر الفلسطينيون، أيضاً، انتهاء الانتفاضة الثانية، وصاروا يتحدثون عن ثالثة.
الاتجاه الثاني أنه إن كان هناك مجال لتصحيح شيء ما، فهو بقرارات القيادة التي تجتمع لتتشاور وتتخذ ما تراه صواباً، فيما حديث «الغير»، حتى لو كانوا إسلاميين، لن يتخطى كونه «أفكاراً جيدة»، لكنها آتية من «المجتمع الجاهلي» الذي صنعه العقل الجمعي لفكر الإخوان المسلمين، بتصنيف المجتمع (الداخلي أو المسلم) إلى مجتمع «على البيعة»، و«مجتمع جاهلي معادٍ»، وهو ما كان يدرس في أسر اللجان التثقيفية للحركة، ولو أن جزءاً كبيراً من هذا الفكر سحبت كتبه (مثل كتب سيد قطب) منذ وصول الإخوان إلى الحكم في مصر، لتتناسب الأفكار مع ظروف المرحلة.
للدلالة على ذلك، مخطئ من يظن أن إشكالات «حماس» هي مع «فتح» فقط، لأن من يراجع تاريخ العلاقات بين الفصائل الفلسطينية، يعرف جيداً أن لـ«حماس» أبواب نزاع كبيرة مع كل التنظيمات بلا استثناء، فحتى «الجهاد الإسلامي» التي تقف تحت المظلة الإسلامية نفسها، في أحسن أحوالها، هي مجموعة من «المنشقين» عن جماعة الإخوان، وفي أسوأ الأحوال، ثلة من المتشيعين، وفق التعبير الحمساوي. كذلك، قلّما سُمع في الأعوام العشرين الأخيرة، عن نزاع بين القواعد الشعبية، أو العسكرية، لكل من «فتح» و«الجبهة الشعبية» أو «الديموقراطية». حتى «الجهاد الإسلامي» لا ترى أن اختلافها مع «فتح» أصله الصفة الحركية مقابل بروز إشكاليتها مع أجهزة أمن السلطة، فتظل ترفع أبجدية أن «سكينك في ظهري وسكيني في ظهر العدو»، كما لم تخض مواجهة عسكرية مع السلطة مثلما فعلت «حماس».
مجدداً، لماذا التركيز على «حماس»؟ للإجابة عن السؤال، من الخارج، يجب الانتباه إلى أن تجربة الحركة التي تعتبر نفسها جزءاً أصيلاً من الإسلام السياسي كانت سبّاقة في المنطقة، فهي شريك أساسي في المحاولة الفلسطينية لإجراء «انتقال ديموقراطي» عام 2006، تحوّل، في أقل من عام، إلى اشتباك دموي، بل فاق عدد الضحايا (450) في نحو سنة معدل الشهداء في سنوات الانتفاضة السابقة (280)، إلى أن قلَب الإسرائيلي الأرقام في حرب 2008 بقتله أكثر من 250 شهيداً في يوم واحد. أي إنه قبل «الربيع العربي»، كان هناك «ربيع فلسطيني» انفرد بأنه جرى تحت الاحتلال المباشر، ولم يكن مشهدٌ أسوأ من استفراد إسرائيل بالفصائل في عمليات اغتيال متسلسلة (2005-2007)، دونما مساس بـ«حماس» أو «فتح»، اللتين كانتا مشغولتين بدماء بعضهما بعضاً.
أيضاً، مما يجب رصده، أن أول تجربة حكم إسلامي معاصرة في البلدان العربية قادتها «حماس»، وهي التجربة التي لم تعتبِر منها الجماعة الأم (الإخوان)، أو باقي التيارات الإسلامية، إذ جاءت الصدمة مباشرة مع اكتشاف «حماس» أنه لا يمكن تحويل غزة إلى الحكم الإسلامي في القرن الحادي والعشرين وفي ظل حالة وطنية تقاتل الاحتلال، وهو ما أرجعها إلى أساس الخلاف بينها وبين «الجهاد الإسلامي»: هل تكون المقاومة (الانتفاضة) قبل التربية والإعداد، أم العكس؟
في تلك السنوات، ظل نسْر السلطة عالياً في الأوراق الرسمية، واضطرت الحركة إلى اعتماد النشيد الوطني (نشيد منظمة التحرير) في احتفالات الحكومة التابعة لها، وكان لا بد من بقاء العلم الفلسطيني حاضراً في الوزارات، فيما ظل الاختلاف على تعليق صورة الرئيس الراحل، ياسر عرفات، في المقرات الحكومية أو رفعها. ورغم أن «حماس» سعت إلى أسلمة الشكل الفلسطيني (غيرت أسماء بعض المناطق، كتل الهوا التي صارت تل الإسلام)، فإنها لم تنجح في إرضاء كثيرين أرادوا رؤية الإمارة، وهو ما دفعت ثمنه لاحقاً، فخاضت حملاتها ضد «السلفيين الجهاديين» بالاعتقال، أما من انشق من كتائبها وحمل السلاح، فكان مصيره القتل.
على المستوى الوطني، وقعت «حماس» في أزمة تعريف قطاع غزة، وخلطت بين مصطلحي الاحتلال والحصار، فهي افترضت أنها طردت «عملاء الاحتلال» من غزة «التي تحررت من الاحتلال في 2005»، وأنها حصلت على الأغلبية التي تخولها الحكم، ومنذ تلك اللحظة، حصرت قيادة «حماس»، والحكومة التي شكلتها، مشكلة غزة في أنها «محاصرة» وليست محتلة، ولم تعترف بواقع أن غزة، على الأقل، أعيد احتلالها بطريقة (غير مباشرة) منخفضة التكاليف. فصار إغلاق المعابر والتضييق في البحر والبر وجولات التصعيد «حصاراً» لا «احتلالاً»، بل تدحرج الخطاب إلى جعل الحصار عربياً قبل أن يكون إسرائيلياً، ولاحقاً تحولت حالة الاشتباك المباشر والاستنزاف المستمر، إلى حالة من الحرب والدفاع عن النفس، لتصبح «التهدئة» مطلباً وطنياً من يخربه يلاحق ويسجن.
مع الأيام، سقط شعار «يد تعمر ويد تقاوم» الذي حملته «حماس» في حملتها الانتخابية، وتبخرت وعودها الاقتصادية للناس. وكل ما قدمته لمن تحكمهم أن الحصار فرض على غزة لأن أهلها اختاروا المقاومة، على اعتبار أنهم لم يختاروا المقاومة ما قبل انتخاب «حماس»، أو أن الأخيرة توقعت أن يفرش لها الورد بعد أن تمسك بالحكم؟
حتى خلال 11 شهراً قُطعت فيها رواتب الحكومة العاشرة (الوحدة)، لم تتجرأ «حماس» على خطوة كانت ستسجل لها، لو أنها انسحبت من الحكومة (السلطة التنفيذية) وبقيت في البرلمان (المجلس التشريعي)، بل لم تكن معاناة الناس في تلك المدة كافية لإقناع الحركة بأنه لا مجال لقبول وجودها دولياً من دون «نبذ العنف» وترك المقاومة. كل ما قدم للناس الخطاب الشهير بأن «حماس لن تعترف بإسرائيل»، ثم اعتمدت ديباجة أن تل أبيب تحارب غزة من أجل «إسقاط حكومة حماس فقط؟»، لتتحول الحكومة، ذات الدور الخدماتي في أساس تشكيلها في أي دولة في العالم، إلى رمز من رموز المقاومة التي لا يجب أن تسقط. من هنا اكتسب أي انتقاد شعبي داخلي لأي حالة فساد أو استغلال للسلطة، في الحكومة التي وصفها رئيسها إسماعيل هنية بأنها حكومة ربانية، سمةَ أنه خدمة لأعداء فلسطين والمقاومة!
حالة إعلاء السقف وصناعة الخطوط الحمر جعلت من أي تغيير لاحق تجريه «حماس» يراه غيرها على أنه «تنازل» و«استسلام»، الأمر الذي قيّد مرونتها في اتخاذ قرارات كثيرة كان يمكن أن تصب في مصلحة الناس وتزيد الرصيد الشعبي لها بصورة كبيرة، وها هي اليوم، مثلاً، بعد ستة أشهر من الحديث عن ضرورة التوافق والمصالحة، تعيد إخراج الهواجس من باطنها، فانبرى قياديوها يعلنون أنه «لا تملك أي جهة إخراج حماس من المشهد السياسي أو القفز عنها بالاستقواء بالخارج»، وأن «من الجهل والعبث التفكير في إقصاء حماس من السياسة والحكم تحت مبررات أنها غير مقبولة دولياً».
نقطة التعقيد في المشكلة الجارية أن «حماس» أعلنت منذ اللحظة الأولى أن المصالحة مع «فتح» ليست خياراً استراتيجياً واستجابة لمصلحة وطنية، بل خطوة موقتة للتحضير لانتخابات تشريعية ورئاسية، مراهنة على أن هذه الانتخابات ستصب في جيبها بأغلبية جديدة. وإذا كان ما جرى لغزة «جزءاً» من نتائج مشاركة الإسلاميين في الانتخابات التشريعية، حتى لا يقال إن مشروع المقاومة غير حاضر، فلا يعلم أحد ماذا سيحدث حينما تشارك «حماس» في انتخابات الرئاسة! ولا حتى الحركة نفسها طرحت خياراتها الواقعية وكيف ستواجه الاستحقاقات الدولية، كما لم يعلن أي فصيل أن «حماس» طلبت الجلوس معه والاستماع لأي نصيحة، أو رأي، في هذا الشأن؟
وقبل مدة، خرج القيادي في الحركة، صلاح البردويل، وهو واحد من عشرات من يصرحون باسم «حماس» (هذه إشكالية سياسية أخرى)، ليضع خطوط المرحلة المقبلة، مؤكداً أن حركته «موجودة أشاء المجتمع الدولي أم لم يشأ، فشرعيتها ناجمة عن إرادة الشعب الفلسطيني الذي اختارها». ورأى أن من يتساوق مع «الموقف الإسرائيلي والأميركي بغرض عزل حماس هو إنسان فاقد للشرف والوطنية»، ثم شرع البردويل في شرح المطالب، ومنها أن «لحماس حق الوجود في كل مناحي الأمن في الضفة والقطاع على حد سواء، بالإضافة إلى كل الوزارات، بدءاً من الموظفين ومروراً بالقيادات الإدارية، بما في ذلك أن يكون لها وزراء»، وأيضاً «في المعابر والمناصب العليا وكل المجالات المختلفة في أجهزة السلطة».
من المهم الاستطراد في ما أعلنه البردويل، وخاصة رؤيته أن «حماس» تستحق كل ذلك، لأنها «فازت بانتخابات نزيهة وما تحوزه الحركة من أغلبية في المجلس التشريعي، بالإضافة إلى حجم التضحيات الذي قدمته الحركة وكتبته بدماء قادتها وأبنائها». جملة المواقف التي أطلقها الرجل ترافقت مع عقد كتلة «حماس» البرلمانية «جلسة ناقصة الكتل» للمجلس التشريعي، فقال إن حكومة التوافق الحالية ليس «لديها شرعية بعيدة عن التشريعي... لن نعطيها ولن نعطي حتى الرئيس نفسه شرعية إن تنكر لمفهوم المصالحة... أعطينا عباس صلاحية بالدعوة إلى انعقاد التشريعي وأن يبقى رئيساً رغم انتهاء ولايته وقد رفض ذلك، وإن أصرّ على موقفه فلن يبقى رئيساً».
وليس مفهوماً حتى اللحظة أن «حماس»، إذا كانت تريد الفكاك من «التوافق» لأن «الحكومة تنصلت من واجباتها في غزة وأذلت موظفيها»... لماذا يكون الفكاك بطريقة ترجع العودة إلى المصالحة صعبة؟ من كان يعلم كيف كان يمكن لمحمود عباس أن يضخم حدثاً مثل اقتحام مجلس الوزراء في غزة، وأن يجن جنونه ليعلن القطاع إقليماً متمرداً، وذلك في ظل سكوت فتحاوي مريب على غير العادة، في دلالة على شيء يحضر، وتمهد له شكوى مطوّلة من عباس لعبد الفتاح السيسي عن «حماس» مجدداً؟ ومن يفهم لماذا تستهدف البنوك مع أن رواتب رام الله غير موجودة؟ بأي عقل يفكر من يريد إحراج عباس في غزة، رغم أن الأخير خائف جداً من تفعيل «حماس» أي خلايا نائمة في الضفة المحتلة ضده، أو ضد الاحتلال، بما ينقلب عليه سلبياً ضمن استحقاقات سياسة التنسيق الأمني التعيسة؟
أيضاً، إذا كان هذا هو أسلوب التعامل مع الأزمة الداخلية في أول تجربة سياسية لحركة مقاومة «شابة»، فكيف كان توقع طريقة تعاطي «حماس» مع غليان المنطقة من حولها؟ الحركة صعّدت كذلك خطابها باتجاه سوريا إلى حد استخدم إعلامها فيه كل ما كانت تستخدمه وسائل الإعلام الخليجية («مليشيات حزب الله» و«شبيحة الأسد»)، وباتت في لحظة ما مضطرة إلى التودد إلى سوريا والتغني بالمعروف القديم والسابق. وهي، لاحقاً، صعّدت خطابها ضد مصر ورئيسها حتى جاء اليوم الذي أصبحت مضطرة فيه إلى التودد إلى المخابرات المصرية وطلب فتح صفحة جديدة. وإن تحدثت «حماس» عن ضرورات اضطرتها إلى فعل ذلك، فمثلاً لا حصراً، ها هي «الجهاد الإسلامي» خرجت من سوريا كما خرجت «حماس»، لكنها لم تصرخ في جامع الأزهر بين الحشود، ولم تقل إن «من وقف معها في الحق لن تقف معه في الباطل»، ولا هي (الجهاد) اتخذت موقفاً مؤيداً للنظام. زيادة على ذلك، لم تختر «حماس» البقاء مؤقتاً في القاهرة، أو بيروت، كما فعل غيرها، بل سارعت إلى الذهاب نحو الدوحة، تطبيقاً لعقلية «إما أبيض أو أسود»، التي لا تنتج إلا الندم، فيما ظل «الاستعلاء» والمكابرة على الجرح كما هو.
ويتكرر ذلك الآن مع أي حديث إعلامي عن طبيعة الرجوع الحمساوي إلى طهران، إذ تتحسس الحركة مما قد يقال، ولا تنطلق من قاعدة «ارحموا عزيز قوم ذلّ»، بل إنها من كبر في عين إيران بعد الحرب الأخيرة، وإن الأخيرة هي التي تحتاجها. أكثر من ذلك، لماذا تنبري منابر «حماس» الدعوية في الشرح للعناصر مشروعية العلاقة بإيران، وجواز الصلاة وراء الشيعة والأكل معهم بل الزواج بهم على أساس أنهم (الشيعة) «وإن كانوا ضالين فإنهم سبب في هداية الكفار وتحويلهم إلى الضلال بدلاً من بقائهم على الكفر»؟ لم كل هذه العودة إلى التاريخ العميق من أجل استخراج ما يبرر العلاقة بعدما صعّد من صعّد الخطاب المذهبي إلى حدّ كادت تكون مواجهة إسرائيل ثانوية.
رغم كل القول السابق، ورغم كل المحاولة النقدية ـ الجراحية لفهم مفاصل حساسة من تجربة «حماس» السياسية، فإنّ من الواجب على «حماس» تحمّل الأصوات الناجمة عن دق أجراس الخطر، لأننا نصرخ خوفاً على أهم وأكبر تجربة مقاومة فلسطينية في المرحلة الحالية. وعلى المتابعين الالتفات إلى أنه ليست مصادفة بريئة أن الانقسام الفلسطيني جرى بعد خروج إسرائيل من غزة (على افتراض تحرير غزة فإنها لا تمثل سوى 1.5% من فلسطين)، لأنه يبدو أن الحاجة إلى الاحتلال باتت أسوأ من الاحتلال نفسه، وهو ما يطرح أسئلة أخرى عن مصير الحالة الفلسطينية بعد التحرير، التي يخشى إجابتها أي قائد أو مفكر فلسطيني، وليس أدل على الخوف الذي نطرحه سوى غيابٌ الرؤية، فمن لا يعرف ماضيه ويتعلم من أخطائه، لن يحسن إدارة حاضره، وبالتأكيد لن يستشرف مستقبله.
أيّاً ما تحاول «حماس»، أو «فتح»، قوله الآن، فإنه هو نفسه ما يتكرر منذ ثماني سنوات، لأن أبجديات الخلاف هي عينها، ولم يطور أي من التنظيمين الكبيرين تعاطيه السياسي مع الآخر، ولا هو يفكر في ذلك. لعل الجديد أن الإدراك الشعبي الفلسطيني أضحى يفهم أن أصل الخلاف هو على السلطة أكثر من أنه اختلاف بين برنامج مقاوم وبرنامج مسالم، إذ خاض الحرب من خاض، وهرب من المسؤولية من هرب، ولم يتغير الواقع... إلا إلى الأسوأ.
على الهامش، فإن كل الظنّ ألا يفهم هذا التقدير ضمن سياق الهجوم فقط، وإن كانت العقلية الحزبية تأبى إلا التصنيف، لكن الناس ليسوا سواسية في الفهم والتقدير، بل من المهم النظر إلى جروح الناس وآلامهم التي لم تنطفئ بعد حتى نحاكم ما نفعله بأيدينا.
* من أسرة «الأخبار»