الفيلسوف والكاتب ريجيس دوبريه، الداعي إلى جمهورية ذات قيم راسخة، يحلل في ما يلي آثار تظاهرة 11 كانون الثاني في كل أرجاء فرنسا وارتداداتها المتمناة

■ بماذا ألهمك التجمّع الكبير الذي حصل ذاك الأحد؟
لا يجوز أن نقاطع لحظة إجماع. فباريس تستحق القليل من التضحية، والجمهورية تستحق مسرحيةً جامعةً من قبل مسؤولينا الذين عرفوا كيف يحتوون العواطف الشعبية. ولكن دعونا لا نستبدل الأفكار بالعواطف، لقد تشبعنا كلّنا من الشعارات والكلمات الرنّانة، فالجمهورية أكثر من مسرحية كوميدية، هي ضرورة ونظام، وشجاعة.

■ لقد رددت شعارات الجمهورية: الحرية، والمساواة، والأخوة منذ مجزرة «شارلي». ما رأيك بذلك؟
لقد خفت في لحظة من اللحظات أن تنسينا الحرية المساواة والأخوة. أنا مسرور لأن الشعار الجمهوري المقدس عاد مكتملاً، على الرغم من كونه معقداً لا بل متناقضاً. الأخوة، نعم. كلّ البشر إخوة، لا وجود لمؤمنين وغير مؤمنين، أو مغضوب عليهم ومختارين. فحين نؤكّد أن كلّ البشر إخوة، نحن نذكّر بأنه لا يوجد أي امتياز يمنح لشخص ما عند ولادته بفضل قدرة خارقة.
الحرية، بالطبع، ولكن في إطار القانون. فلطالما كانت حرية التعبير تخضع لإطار ما منذ إعلان حقوق الإنسان والمواطن. إذ ينصّ قانون 29 تموز 1881 على أن لكلّ مواطن الحقّ في كتابة وطباعة ما يشاء، شرط أن لا يسيء استخدام هذه الحرية بموجب الحالات المحددة في القانون. فالجمهورية هي دولة الحقوق واحترام القانون.
نحن اليوم نعيش في
وهم أن الإنسان هو أبو نفسه، وهذا لا يجدي نفعاً

■ بعد هذه المجزرة وهذه الوحدة المعبّرة والمؤثّرة، علامَ يمكننا أن نبني المستقبل؟
تكمن المسألة الأساسية في أن نعرف ما إذا يمكن للحظة من الوحدة أن تتحوّل إلى ممارسة فعّالة. يمكننا أن نأمل العودة إلى السياسة من خلال تفوّق السياسة على الاقتصاد.
إن الحدث الكبير في الغرب هو التقدّم الذي حققه «الرقم» يرافقه «الشكل»، حيث يسود الحكم الديكتاتوري للأرقام مع الفوتوجينية (الملاءمة في التصوير). لقد بات يتعين على الاقتصاد أن يعود إلى موقعه كملحق، وعلينا أن نعيد اكتشاف الغايات النهائية.
نطلب من مسؤولينا أن يكفّوا عن التصرّف كمحاسبين لبروكسل (الاتحاد الأوروبي)، هدفهم الأسمى تخفيض العجز، والهدف الذي لا يقلّ سمواً هو الانتقال من السكك الحديد إلى الحافلات.
يمكننا أن نأمل أن يجدوا فرنسا كشخص وليس كشركة، نأمل ن يجدوا التاريخ، أي الذاكرة والأمل، وألا تشكّل الاستطلاعات البداية والنهاية في تحديد سلوكهم، ونأمل أن تجد السياسة كرامتها.
في فرنسا، السياسة ديانة علمانية منذ عام 1789، فإن انتهت هذه الديانة العلمانية، فإن الديانة المنزلة ستصبح هي السياسةً. لقد تمكنّا من تفادي ذلك بفضل تراثنا المسيحي وتقاليدنا العلمانية الجمهورية. ونحن نواجه خطر العودة إليها اليوم إن استمر فراغ الانتماء والفراغ الرمزي.
علينا أن ندرك أن التعليم لا يستهدف سوق العمل فحسب، ولكن يسهم في نقل المعرفة أيضاً.

■ كيف نتوصّل إلى مفهوم تأسيسي؟
يجب العودة إلى المبادئ من المدرسة حتى تعود مكاناً للتعليم وليس للنشاطات فقط. فلا يفرض على الطلاب أن يتأقلموا مع وضع المجتمع القائم ولكن أن يتعلّموا التفكير بأنفسهم.
فلكي يتعلّم الطالب كيف يتجاوز أساتذته، هو يحتاج إلى أساتذة، أساتذة يحظون بأجر مناسب وتحترم كراماتهم. فحين تكون قيمة الشخص بقدر ما يجنيه، تكون هذه المهمّة صعبة.

■ الأخوة، يبدو أن الجميع يضحي بهذه القيمة..
- لقد ألفت كتاباً عن هذا الموضوع، لحظة الأخوة. إن الإخوة عكس الأشقاء والبيولوجيا، هذه العلاقة تقوم على المعنى وليس على الدم، وتعني الاتحاد بالقلب وبالعقل.
لا يوجد إلا لحظات أخوّة قليلة تفرضها الشدّة أو الضعف أوالوهن. تعني الأخوّة التعرّف إلى أبوّة رمزية. نحن إخوة بالمسيح، إنها قيمة تتجاوزنا، لا يوجد إخوة بدون قدسية. نحن اليوم نعيش في وهم أن الإنسان هو أبو نفسه، وهذا لا يجدي نفعاً.
في تظاهرة 11 كانون الثاني، استعدنا الفخر، من خلال العالم والنشيد الوطني، من خلال التأكيد أنه يمكننا أن نكون فرنسيين وليس الصورة النمطية عن فرنسا، وأنه ليس علينا أن نحني رؤوسنا أمام الثقافات الأخرى. إن الترّاث الفرنسي يمرّ من الغال إلى وولينسكي، ومن لافروند إلى بيرنار ماريس. إنها الروحية الفرنسية.

■ كيف وصلنا إلى كلّ هذه المشتقات الاجتماعية من كلّ الأنواع وكلّ الملل وإلى هذا الفيض المفاجئ من العنف المتطرف؟
- لقد أبدلنا الجزيئة بالذرّات، ومن أجل إيجاد ما هو مشترك، علينا إيجاد الجزيئة. حين تتواجه الذرّات، ستندلع حرب الكلّ ضدّ الكلّ.
والفكرة هنا في أن السعادة هي القيمة العليا. والسعادة هي الفرد. فوهم المعاناة الذاتية للفرد المعاصر لا تأخذه بعيداً.

■ ما هو التحدّي الرئيسي من اليوم وصاعداً؟
علينا استعادة الرمزية التي توحّد. إن الشيطان هو من يقسّم، فالمالية الرأسمالية شيطانية. تعني كلّ واحد لنفسه مثلما في حال غرق سفينة. يتعيّن إيجاد العامل الموحّد، ومن يقول موحّد يقول قدسيةً، ومن يقول قدسيةً لا يقول بالضرورة أدوات العبادة.
كان لرفاق الحرية أب، هو ديغول، وكان لهم مقدّس هي فرنسا. ما هي القدسية؟ إنها الأمور التي لا يتاجر بها، والتي لا يتفاوض عليها، هي تشدّ القطبين وتحوّل الجزء إلى كلّ. إن القدسية هي ما يتجاوز البشر، ما يمكن أن يوحدهم. ولكن يعود للبشر أن يختاروا ما الذي يتجاوزهم.

(ترجمة هنادي مزبودي عن «لاكروا»)