في أعقاب مؤتمر «الأزهر لمواجهة العنف والتطرف» الذي عقد في مطلع كانون الأول المنصرم، صدر بيان عن مشيخة الأزهر رفض تكفير «داعش» بحجة أن «علماء الأمة يعلمون يقينا أنهم لا يستطيعون أن يحكموا على مؤمن بالكفر مهما بلغت سيئاته؛ بل من المقرر في أصول العقيدة الإسلامية أن لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحد ما أدخله فيه، وهو الشهادة بالوحدانية ونبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الذنوب مهما بلغت لا يخرج ارتكابها العبد من الإسلام».

وقد جاء هذا البيان رداً على بعض التصريحات التي أكدت أن مفتي نيجيريا الذي كان يشارك في المؤتمر المذكور قد أفتى بتكفير «داعش»، فسارعت مشيخة الأزهر إلى نفي صحة الأمر كون من ينطق بالشهادتين لا يمكن تكفيره مهما بلغت ذنوبه. والغريب أن موقف الأزهر ينطوي على التباس لا بد من الإشارة إليه، ألا وهو تحديد مفهوم الايمان في الفكر الاسلامي. فقد انقسم هذا الأخير خلال تاريخه الطويل إلى فرق شتى اختلفت حول تحديد المعيار الذي يسمح بالتفريق بين المؤمن والكافر. ولما كان الأمر يتشعب كثيراً ويحتاج إلى إسهاب لا مكان له هنا، سنكتفي بالإشارة إلى أن مدار الانقسام كان يتعلق بمعرفة ما إذا كان الإيمان هو مجرد الاعتقاد والقول أو هو أيضاً العمل. واستقر الرأي في نهاية المطاف لدى التيار السني الغالب بأن الإيمان هو القول والعمل. وقد أعلن ابن تيمية مثلاً أن من «أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والايمان قول وعمل» (العقيدة الواسطية).
بحسب بيان الأزهر فإن تكفير «داعش» غير جائز كون أعماله مهما بلغت لا تمس جوهر الإيمان المتمثل بالشهادتين

جاء ذلك في محاولة من الفكر السني كي يجد حلاً وسطاً بين من جعل مرتكب الكبيرة كافراً (الخوارج) وبين من قال بأن الإيمان هو مجرد الاعتقاد الصحيح (المرجئة). فالعمل ركن من أركان الإيمان لكنه ليس الركن الوحيد، لذلك ليس الإيمان قيمة مطلقة إما توجد أو لا، بل هو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فالبشر لا يتساوون في الإيمان بل تتفاوت درجاتهم بحسب أعمالهم. فمرتكب المعاصي يظل حكمه حكم المؤمن لكن درجة إيمانه تزيد وتنقص وفقاً لطبيعة عمله، وهو لا يخرج من الإيمان إلى الكفر كما قال الخوارخ، ولا من الإيمان إلى الفسق كما قالت المعتزلة عملاً بمبدأ «المنزلة بين المنزلتين» الشهير، أي إن الفسق حالة تقع بين مسمى الكفر ومسمى الإيمان.
ويتبين للمرء عند قراءة بيان الأزهر أن هذا الأخير التزم التعريف التقليدي للإيمان عندما أعلن أن الذنوب مهما بلغت لا تجعل من المؤمن كافراً. فجرائم «داعش» التي لا حصر لها هي في أسوأ الأحوال ذنوب لا تنفي حقيقة الإيمان. فتكفير «داعش» غير جائز كون أعماله مهما بلغت من الشناعة والفظاعة والإرهاب لا تمس جوهر الإيمان المتمثل بحسب بيان الأزهر بالشهادتين أي توحيد الله والاقرار بنبوة محمد. لكن السؤال الأهم والذي لا يجيب عنه الأزهر هو معرفة كيف يقوم تنظيم «داعش» بتكفير جميع مخالفيه من المسلمين الذين يقرّون من دون أدنى شك بالشهادتين؟ فهذه المعضلة لا يمكن حلها من دون تقديم جواب واضح على سؤالنا الأخير. وبما أن الأزهر الشريف لم يواجه هذه الاشكالية كما كان من المفترض والمأمول، سنتولى قدر الامكان معالجة هذه النقطة بغية ايجاد الجواب المنشود.
يتبنى بيان الأزهر تعريف الإيمان بحسب المفهوم الذي ورد في العقيدة الطحاوية (نسبة لأبي جعفر الطاحوي)، وهي عبارة عن مختصر يتناول جميع العقائد المهمة في الفكر الاسلامي ويعرضها وفقاً لمذهب أهل السنة والجماعة. وأهمية هذه العقيدة تكمن في القبول الذي لاقته لدى مختلف التيارات والمدارس داخل الفكر السني. وقد تأثرت الوهابية تأثراً كبيراً بشرح ابن أبي العز للعقيدة الطحاوية فتبنته المؤسسة الدينية السعودية من خلال طبعه وتدريسه. وقد كان ابن أبي العز قد استلهم في شرحه هذا ابن تيمية، المرجع الأكبر لمختلف التيارات السلفية عموماً وللوهابية و«داعش» تحديداً.
يقول ابن أبي العز شارحاً لجملة بيان الأزهر التالية: «إن الذنوب مهما بلغت لا يخرج ارتكابها العبد من الإسلام» المقتبسة من العقيدة الطحاوية ما يلي: «امتنع كثير من الأئمة عن اطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج. وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم» (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، وزارة الشؤون الاسلامية، الرياض، ص. 297). فالذنوب نوعان: ذنوب دون الشرك كالقتل والسرقة وأفعال «داعش» تدخل في هذا النوع، وذنوب تؤدي إلى الشرك بالله. فالطحاوي بقوله إن الذنوب مهما بلغت لا تخرج العبد من الاسلام كان يقصد النوع الأول حصراً وعليه لا يمكن تكفير «داعش» بسبب ذنوبه بل يمكن تكفير كل من يشرك بالله. فالتوحيد هو الفيصل إذاً لمعرفة من يجوز تكفيره وليس الذنوب «العادية». لذلك عندما يقول بيان الأزهر بأن تكفير «داعش» للمسلمين لا يجب أن يواجه بتكفير سائر المسلمين لـ «داعش» ينطوي على مغالطة بيّنة. فـ «داعش» تكفر المخالفين لأنها تتبنى المفهوم الوهابي (غير المعدل) للتوحيد الذي يجعل من غالبية المسلمين مشركين. فالتوحيد كما شرحه ابن تيمية في كتابه «درء تعارض العقل والنقل» وكما شرحه ابن أبي العز ومن ثم كرره محمد بن عبد الوهاب في «الأصول الثلاثة» (وهل فعل عبد الوهاب غير التكرار الممل في جميع نصوصه) ينقسم إلى نوعين:
توحيد الربوبية: وهو الإيمان بأن الرب واحد لا شريك له أو نداً أو معيناً.
توحيد الألوهية: هو التوجه بالعبادة إلى الله وحده.
فالإقرار بوجود إله واحد (توحيد الربوبية) غير كاف كي يجعل الفرد في عداد المؤمنين بل عليه أن يعبد الله وفقاً للشريعة التي أرادها (توحيد الألوهية). فالمسلم الذي يؤمن بخالق واحد ومن ثم يطلب شفاعة الأئمة (كالشيعة) أو يزور قبور الأولياء والصالحين (كالصوفية) يكون رغم احترامه لتوحيد الربوبية قد أشرك من خلال عمله هذا، بالله ونكر ألوهيته، وهو بالتالي من الكفار الذين يجوز قتلهم. وهكذا يتحول مفهوم التوحيد الوهابي-الداعشي إلى سلاح خطير يسمح بتكفيرالجميع كون أي اخلال بالشريعة قد يفسر كشكل من أشكال الشرك. لذلك يقوم «داعش» بتكفير من يقبل بالقانون الدولي أو من يقر بالقوانين الوضعية التي تصدرها الدولة الحديثة اليوم. فعبادة الله الصحيحة شرط جوهري لاكتمال التوحيد والنطق بالشهادتين وحده لا ينفع لأن الإيمان قول (توحيد الربوبية) وعمل بالشريعة (توحيد الألوهية).
وهكذا يتبين لنا أن مؤتمر الأزهر الذي تجنب معالجة لبّ الموضوع، ولم يقم بدحض العقيدة الوهابية أو فصل بين التكفير وعقوبة القتل التي تنتج منه، قد خرج من دون أي نتيجة عملية حقيقية بل فقط بشعارات مجردة تصلح للاستهلاك الاعلامي ولجان حوار الأديان. فـ «داعش» خرج كأكبر منتصر، فهو لا يمكن تكفيره بقرار من مشيخة الأزهر بينما يستطيع تكفير من يشاء لأنه قرأ جيداً وفهم كلاً من ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب.
* باحث لبناني