ليس هناك جديد، حقاً، في خطاب الفرقاء السياسيين السوريين والإقليميين، كما على المستوى الدولي، حول الأزمة في سوريا. ذلك أنّ الخطاب المتداول حول الحل السياسي، لتلك الأزمة، لم يبرح قط أرضية الحرب الضروس على البلاد لتحديد مضمون ذلك الحل. بل يمكن القول، دون أدنى مبالغة، ان الحل السياسي في سوريا ليس له اي مضمون، في الوقت الراهن، على الأقل، غير الحرب الدائرة في البلاد منذ ما يقرب من أربع سنوات على التوالي، من دون ان تلوح في الأفق من معطيات أو مؤشرات ما يدفع الى التفاؤل بأنها ستضع أوزارها قريباً، وان الأمن والاستقرار يمكن ان يعودا الى البلاد في الزمن المنظور.
الدولة تتحدث عن الحل السياسي وتحاول ان توفر بعض شروطه من خلال مقاربتين متوازيتين: محاربة الجماعات الإرهابية المسلحة وتضييق الخناق عليها في مختلف معاقلها من جهة، وعقد مصالحات في عدد من المناطق التي يُسلّم بموجبها سلاح اعداد من المواطنين مقابل رفع كل المتابعات في حقهم، وعودتهم الى ممارسة حياتهم الطبيعية في المجتمع، على أمل اختراق جبهة تلك الجماعات وتقليص عديدها، وتشجيع عدد من المسلحين على مغادرة أرضية الارهاب والعنف المسلح، والعودة الى كنف الدولة من دون اي خوف على أمنهم وسلامتهم الشخصية.
وفي المقابل، تواصل الجماعات المسلحة محاولاتها إحداث اختراق نوعي في جبهة الدولة، لفرض شروطها السياسية الرامية الى تغيير معالم الدولة السورية، وليس اجراء تعديلات ما، على النظام السياسي فحسب، وهو هدف ما انفكت تعبر عنه مباشرة او عبر مسانديها الإقليميين والدوليين الذين صمموا العزم على إسقاط النظام السوري بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك دعم الجماعات المسلحة تحت مسميات عديدة.
المضمون الفعلي للأحاديث عن الحل السلمي لا يزال هو الحرب الرامية إلى تعديل المعادلات على الأرض

صراع هاتين الاستراتيجيتين هو الذي أضفى على الأزمة السورية طابعها الخاص الذي يجعلها تتحرك الى حد الآن على أرضية الحرب المفتوحة بين الطرفين وتحالفاتهما الإقليمية والدولية، وحيث ليس من مضمون للبحث عن الحل السياسي إلا ما ستسفر عنه هذه الحرب المستمرة من نتائج لجهة ترجيح كفة الدولة أو لجهة ترجيح كفة خصومها وأعدائها. وهنا ينبغي الاعتراف بأنه لم يخامر هؤلاء أدنى شك في كون كفتهم هي الراجحة نظراً إلى الإمكانات المادية والمعنوية التي جُنّدت وزُجّ بها في الميدان، لتحقيق هذه الغاية التي كانوا يعتبرون انها في متناول اليد انطلاقاً من تحليلات تبسيطية تبيّن، في ما بعد، أنها ليست في حقيقتها غير نوع من إحلال الرغبات محل الواقع.
واليوم، جنّ جنون بعض شخصيات المعارضة التي كانت تدعو الى التدخل العسكري في سوريا، عندما رأت ان السياق السياسي الإقليمي والدولي المرتبط بالأزمة السورية، أصبح أميل ما يكون الى تدشين نوع من الحوار السياسي بين الدولة السورية ومعارضيها. وقد اشتاط هؤلاء غضباً وهم يعاينون ان الأمم المتحدة ذاتها تواصل مشاوراتها مع الرئيس السوري بشار الأسد حول إمكان تدشين مرحلة جديدة من المفاوضات السورية ـــ السورية.
وأي كارثة تعادل أن يرى هؤلاء ان المجتمع الدولي مستمر في التعامل مع القيادة السورية باعتبارها المخاطب الشرعي، في كل ما يتعلق بالشأن السوري بعد كل هذه السنوات الطويلة من الحرب في سبيل نزع تلك الشرعية عنها.
وقد دعا هؤلاء الى مقاطعة كل الجهود الدولية الرامية الى إيجاد حل سياسي للازمة السورية، بدعوى ان المجتمع الدولي لم يتحمل مسؤوليته، تجاه الشعب السوري، الذي يتعرض لمجازر يومية. ورأوا أنّ موقف المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول العظمى، ومجموعة أصدقاء سوريا لم يحركوا ساكناً لتخليص الشعب السوري من هذا النظام الذي لم يتوقف قط عن استعمال آلة القمع والقتل بحسب رأيهم.
والغريب ان هذه الشخصيات لم تشر من قريب او بعيد الى الاعمال الإرهابية اليومية التي تمارس ضد الشعب السوري الآمن في مدنه وقراه، من قبل المنظمات والجماعات التكفيرية الإرهابية. ولكأن لسان حال هؤلاء يوحي بأن عمليات الذبح والإبادة الجماعية التي تمارسها جبهة النصرة وأخواتها وتنظيم داعش الإرهابي تندرج في سياق ما تسميه النضال ضد النظام السوري ورئيسه بشار الاسد، وبالتالي فإنها تندرج ضمن ما تسميه الثورة السورية.
ان هؤلاء يشعرون، على ما يبدو، بأن التطورات الفعلية في الميدان قد تجاوزت أوهامهم حول المجتمع الدولي، وطرق اشتغاله خصوصاً عندما يجد نفسه امام وضع من التعقيد بمكان كما هو عليه الأمر في سوريا، وأمام صمود ميداني وسياسي كذب كل توقعات من راهنوا على انهيار الدولة السورية تحت ضربات الجماعات المسلحة الإرهابية المختلفة.
صحيح، ان الدول الغربية، عموماً، لم تغير مواقفها من الدولة السورية، غير انها تزن تحركاتها بمقاييس أبعد ما تكون عن الأوهام التي نسجتها عنها جماعات مرتبطة بأجندات خارجية لا تملك في تغييرها ولا استمرارها ادنى تأثير، لانها تخضع، اولاً وأخيراً، لتقدير القوى ذات الاجندات الخاصة بمصالحها، ولم تكف عن التعامل مع تلك الجماعات باعتبارها مجرد أدوات تابعة، منفعلة ومرتبطة في وجودها واستمرار فعلها التدميري بإرادة القوى التي كانت وراءها سياسياً وأمنياً وعسكرياً.
وإلى أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الأفكار التي يجرى تداولها، حول الحل السياسي، والجهود التي تبذلها روسيا، وبعض الدول الإقليمية، في هذا الاتجاه، فإن أنباء مختلف الجبهات المفتوحة بين الجماعات المسلحة والدولة السورية تفيد ان كفة الحرب لا تزال هي الراجحة الأمر الذي يسمح بالقول: ان المضمون الفعلي للأحاديث عن الحل السلمي، لا يزال هو الحرب الرامية الى تعديل المعادلات على الأرض، وخلق شروط تفيد الدولة بما يجعل التفاوض يدور حول شروط اعادة الأمن والاستقرار للبلاد، او تفيد، على العكس من ذلك، جماعات مسلحة ترى انه لا مناص من إسقاط الدولة السورية باعتباره الحل السياسي الوحيد المقبول لديها ولدى القوى الاقليمية والدولية التي تدعمها.
فأي رهان سيفوز؟ لا شيء، الى حد الآن، يسمح بالقول بأن الجماعات المسلحة هي التي ستكون لها الغلبة، بعد ان خسرت كل رهاناتها في السابق.
* كاتب مغربي