الموضوع ليس تفصيلاً ولا يمكن تجنّبه، أو الحديث عن السياسة في الوطن العربي من غير الاتفاق عليه. فلا معنى لأن نناقش مشاريعنا ومستقبلنا وسياساتنا وبيننا من يضع نصب عينيه حرباً مقدّسة مع إيران، أو عداءً إلى الأبد مع أمّة جارة. يوجد فرقٌ كبير بين أن نؤكّد أنّ ايران، كحكومة وبلد، هي «آخر»، مصالحه لن تلتقي دوماً مع مصالحنا (لو كنت مكان القيادة الايرانية، مثلاً، فهل كنت ستفضّل عراقاً ذا حكومة مركزية قوية، أم عراق أقاليمٍ وفيدراليات دينية واثنية؟)، وبين أن نقرّر أنّه «إما نحن أو هم».
كان من الصعب على المرء الذي لم يعاصر الحرب العراقية-الايرانية (أسوأ حدثٍ جرى على منطقتنا في العقود الأخيرة، والمقدمة لكلّ الكوارث التي تلت) أن يفهم كيف جُرّ جزءٌ مهم من الجمهور العربي إلى التماهي مع حربٍ عبثية، لا إمكانية للدفاع عنها من أي زاوية، عبر خلق عصبية عربية معادية للإيرانيين. غير أن الخطاب الذي يخرج من الخليج اليوم، بمختلف تلاوينه، يرينا ــ مجدداً ــ كيف تقوم نخبٌ غير وطنية بزج شعوبها في أتون معارك ليست لها.
صار الكلام عن إيران يبدأ بلائحة طويلة من المظلومية والشكوى: «التدخّل» الإيراني في بلادنا، «التغوّل» الفارسي في لبنان وسوريا واليمن، و»أذرع» إيران المنتشرة في كلّ مكان. أغلب هذه النزاعات موجودة وملتهبة، ولكن، هل نجد إيرانيين في لبنان؟ هل هناك فرسٌ يقاتلون في اليمن؟ أم أنّ صاحب هذا الخطاب يريد تحويل حروبه الأهلية ومشاكله الداخلية إلى صراعٍ بين عربٍ وفرس، وأن يرى مواطنيه الذين يختلف معهم كأذرعٍ للخارج؟
غياب المشروع العربي، الذي جعل بلادنا ساحة مفتوحة لإيران وغيرها، لم يكن نتيجة كارثة طبيعية، بل هو تتويجٌ لسياسات مقصودة وخيارات حثيثة أدّت إلى إضعاف العراق ومصر وسوريا ومنع أي قوّة عربيّة من التشكّل والاستمرار. ومن قاد هذه الحروب ضدّ إخوته العرب هو آخر من يحقّ له أن يندب «غياب المشروع» وأن يشتكي من النتائج (وكأنه، في ظلّ الوضع الراهن، كانت مشاكلنا ستحلّ فقط لو غاب التأثير الإيراني، وتركت المنطقة لأميركا وحلفائها وميليشياتهم).
أما اتّهام الشيعة العرب بالولاء لإيران على حساب أوطانهم، فهو يأخذ النقاش إلى مكان أخطر بكثير، مؤشراً على انهيار آخر أسس الاجتماع في المشرق العربي؛ وهو افتراضٌ لا يعكس إلّا جهل المتكلّم بالتشيّع العربي واستحالة خروجه عن منطلقات الخطاب الطائفي الكاره.
من المفيد، إذاً، لمن يروّج خطاب «المظلومية» في وجه إيران، أن يحافظ على حدّ أدنى من الذاكرة التاريخية، ويتذكّر ما فعلناه بهم، وليس ما فعلوه بنا وحسب، وأن يتذكّر أيضاً حدود الخطاب الطائفي العدائي واستحالة المساومة معه ــ إلّا إن كان يعتبر أنّ عرباً لم يهابوا قتال إسرائيل وأميركا سيستكينون للسلفي وغيره حين ينعتهم بأنهم كفرة وعملاء ودون البشر.