ظلت حكومات دول الخليج تعتمد مقاربة تقوم على انكار وجود مواطنين لها في التنظيمات المتشددة، أو التخفيف من أثر ذلك عبر ادعاء أن ما يقوم به المواطنون الخليجيون لا يكاد يتعدى دعم بعض الجهات المسلحة ضد النظام السوري، وعلى الرغم من تورط عدد كبير من المواطنين الخليجيين في أحداث 11 سبتمبر، وافتخار تنظيم «القاعدة» بضم أكثر من قائد وشرعي خليجي في صفوفه، وإعلان الولايات المتحدة عن معتقلين خليجيين يتبنّون فكر «القاعدة» في سجن غوانتنامو، إلا أن الجواب الرسمي المعتاد بأن هؤلاء مجرد شواذ، ولا يستدعي الأمر اتخاذ إجراءات احترازية أو غير اعتيادية.
استمرت سياسية الإنكار وغض النظر الخليجية عن الجماعات المتشددة، والخلايا النائمة حتى مطلع عام 2014 الفائت. أشير مثلاً إلى التغريدة الشهيرة التي كتبتها وزيرة الاعلام البحريني والمتحدثة باسم الحكومة آنذاك سميرة رجب والتي قالت فيها إن ما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» هو «اسم للتغطية على إرادة الشعب العراقي في الحرية والكرامة». وحتى في بعض الدول الخليجية التي اعترفت بخطر الجماعات المتشددة وبانتساب بعض مواطنيها لها، فإنها لم تتخذ أي خطوات جدية تجاه تنامي نشاط هذه المجاميع العنيفة، وتعاطت معها بوصفها أخطاراً تمكن محاصرتها عبر بعض الإجراءات الاحترازية، وإلى قبيل وقوع الحوادث الدامية نتيجة أعمال العنف في العربية السعودية ظل الحديث الرسمي عن خطر التبرعات غير النظامية على أمن دول الخليج خافتاً.
فعلى الرغم من أن التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة في الكويت خلال السنة المنصرمة كشفت بعد حجز محكمة الجنايات للقضية المعروفة بـ «تنظيم داعش- الكويت» والمتهم فيها 8 أشخاص، أن هناك تخطيطاً لهدم نظام الحكم في الكويت والتمدد والتوسع إلى الدول المجاورة، وأن فوضى جمع التبرعات سوف تؤدي إلى وقوع كارثة مروعة إن لم يوضع لها حد، إلا أن نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية الشيخ محمد الخالد أكد في رده على سؤال برلماني عدم وجود نصوص قانونية تجرّم حملتي «تجهيز 12 ألف غازٍ»، و»دعم المجاهدين في سورية»، موضحاً أن جهات الاختصاص ارتأت أن الحملتين لا تشكلان خطراً محققاً على الكويت.

إن سياسة الاختباء خلف قوة الامن الخليجي تثير الكثير من علامات الحيرة

غض النظر عن هذا الخطر لا يعبّر عن إغفاءة حكومية فقط، بل أيضاً تسنده آراء بعض الأكاديميين، مثال ما عبّر عنه الدكتور خالد الشلال استاذ علم الاجتماع في جامعة الكويت، وذلك قبيل التفجيرات لعدد من المساجد في الخليج، حيث اعتبر أن «تنظيم داعش يدافع عن حقوق من وجهة نظره... وبعض المنتسبين له يمكن ان نطلق عليهم ارهابيين والبعض الآخر مجاهدين، فهذا التنظيم يمكن أن نصفه بأنه شبه ارهابي... خصوصا ان هناك من ينظر الى داعش على انه تنظيم يدافع عن حقوق طائفة مظلومة»، مشدداً «على ضرورة عدم لصق صفة الارهابي بكل اعضاء تنظيم داعش فالبعض لديهم الحق في ما يفعلون ويدافعون عنه»، ومشيراً الى ان «الكويت في مأمن تماماً عن هؤلاء لأنها دولة عادلة ومحايدة وليست منحازة لأحد».
وفي مقال تحت عنوان: «سُنة العراق وداعش تحالف الضرورات»، يقرر الاكاديمي السعودي د. مهنا الحبيل أن العراقي السني «وأمام الجرائم التي ترتكب... ليس لديه خيار إلا أن يتحالف مع داعش لردّ الاجتياح الإيراني الكبير باسم الحشد الشيعي، المسنود غربياً والمغطى دولياً، والذي لا يوجد معه ولا حتى من شركاء العملية السياسية السُنة فيه أي ضمان لعدم سحق مُدنه وإنسانه وطفولته، بعدما خذل العرب أو تواطؤوا ضد مناطقه وأهله».
وباعتبار أن موقف بعض الأنظمة الخليجية تجاه النظام السوري هو سلبي، فإن الصمت تجاه هذه الأنشطة كان له ما يبرره، وربما يصبّ في ذات الرغبة الرسمية، وأعني التخلص من النظام السوري عبر التوسل بالقوة العسكرية، وفي حديثه لقناة «بي بي إس» الأميركية لم يتردد الأمير تركي الفيصل، سفير المملكة العربية السعودية السابق في واشنطن، عن القول «إن المعارضة السورية بحاجة إلى أسلحة مضادة للطائرات والدبابات كي يحدث التوازن في الميدان، وبالتالي تمكن حلحلة الأمور بالتفاوض».

حكومات خارج منطقة التغطية

بيد أن هذا الإنكار أو التخفيف من ضلوع الخليجيين في منظمات عنف لم يعد ممكناً، فخلال العام ذاته توالت الانباء عن انخراط عدد كبير من الخليجيين في صفوف اخطر الجماعات المسلحة في الشام والعراق، وأدرج مجلس الأمن الدولي ووزارة الخزانة الأميركية في أغسطس 2014 عدداً من شيوخ الدين الخليجيين المشهورين إضافة إلى عدد من الناشطين والأكاديميين، ضمن قائمة ممولي الإرهاب في العراق وسوريا. وأعلنت داعش في أكثر من مناسبة سقوط قتلى كويتيين وسعوديين وبحرينيين في معارك على ارض سوريا والعراق، وظهر بعض المقاتلين الخليجيين في أشرطة مسجلة كاشفين عن هويتهم الخليجية كأبرز تحدٍّ لحكومات بلدانهم.
وفي يونيو 2014، أعلن الشيخ تركي بن مبارك البنعلي، المتشدد البحريني، أن تنصيب «داعش» لأبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين في كل مكان، هو «وعد الله» حيث «أتته الخلافة منقادة إليه تجرر أذيالها، فلم تك تصلح إلا له، ولم يك يصلح إلا لها». والبنعلي هو أحد الشرعيين في «داعش»، علماً بأن أبرز «الدعاة الشرعيين» في «داعش» مواطنون يحملون جنسيات خليجية، مثل السعوديين الشيخ عثمان آل نازح، والشيخ ابو اسامة القحطاني، والشيخ أنس النشوان صاحب فتوى قتل الاثيوبيين، والكويتي أبو عبدالله الذي أفتى وأشرف على أكبر مجزرة حصلت في سوريا عام 2014 والتي قتل فيها حوالى 500 شخص من أبناء الشعيطات ذبحاً.
وفي أكتوبر 2014 كشف مصدر أمني كويتي لصحيفة «القبس» الكويتية «أن الأحداث الذين يتأثرون بالأفكار الداعشية يتوجهون إلى العراق وسوريا عبر أكثر من محطة، من الكويت إلى البحرين، ومنها إلى تركيا فالعراق او سوريا. وبعضهم يذهب عبر مطار دبي»، وفي السياق ذاته توالت التحذيرات الرسمية في دول الخليج من الانتماء او تقديم الدعم المادي لتنظيمي القاعدة وداعش وأمثالهما.
هذا الاعتراف والوعي الحكومي بالخطر جاء متأخراً جداً، حيث تنبه الخليجيون إلى سلسلة حوادث إجرامية دامية استهدفت أمنهم وأبناءهم، فقد قُتِل 8 أشخاص في حي الدالوة - الأحساء، الواقعة في المنطقة الشّرقية من السعودية، حين هاجم مسلحون حسينية يُقام فيها احتفال ديني. تلاه قتل انتحاري 23 شخصاً وخلف 102 جريح حين فجّر نفسه في مسجد الإمام علي (ع) أثناء صلاة الجمعة في القديح - المنطقة الشّرقية من السّعودية. وفي يوم الجمعة الذي تلاه أستشهد ثلاثة أشخاص في تفجير انتحاري وجُرِح 10 أشخاص حين فجر انتحاري نفسه خارج مسجد للشّيعة في حي العنود بالدّمام، وأعقبه التفجير الذي وقع في جامع الامام الصادق في الكويت حيث سقط 27 شهيداً واكثر من 200 جريح، ولم يتردد إرهابيو «داعش» في توجيه التهديد إلى مساجد البحرين، وإعلانها كهدف قادم.
لقد كشفت هذه الاحداث المتتالية أن خطر جماعات العنف في الخليج لم تكن مجرد مخاوف، ولا يمكن تصنيفها كمحاولات ازعاج سياسي للضغط على الحكومة، وإنما أصبحت حقيقة ماثلة، وتمتلك حزمة من الأهداف السياسية المحددة، وأن مناهج التكفير في المدارس، ومشاريع تجهيز الغزاة، والخطب التحريضية في المساجد ووسائل الاعلام، لم تكن مجرد حالة حماسية عابرة، أو دعوية حسنة النية، وإنما هي حركة منظمة تستهدف تقويض النظام الخليجي والسلم الأهلي.
إن سياسة الاختباء خلف قوة الامن الخليجي، وتساهل الانظمة الخليجية مع أنشطة وجهود الخلايا الدينية المتشددة، وحديثها المستمر عن السيطرة على الوضع الأمني، يثير الكثير من علامات الحيرة، فكيف يمكن تصديق ادعاءات الحكومة بفرض الأمن مع تزايد أعداد الأفراد المتسربين من الدولة إلى جماعات العنف؟ إذ إن أحد ابرز صور التناقض التي تكشف هشاشة التفكير الأمني الخليجي هو تغاضيها أو صمتها عن اصوات التأييد والاحتفاء بجرائم العنف التي يقوم بها مواطنون ينتمون لها في دول أخرى، بينما تدينهم لذات الفعل إذا وقع منهم في بلدهم، فهل ثمة فرق بين تفجير مناطق آمنة في العراق أو سوريا أو أفغانستان أو باكستان، وبين تفجير مناطق آمنة ودور عبادة في الخليج؟

تفكيك مولدات العنف الداخلية

لا يكفي دول الخليج أن تحصن نفسها من تسرب افراد داعش إلى دولها، وإنما عليها اليوم أن تبذل جهداً أكبر في كشف مولدات العنف الكامنة في أرضها، ويبدو لي أن هذا تحديداً هو مكمن الصعوبة في حل معضلة تناسل جماعات العنف في الخليج، إذ يجب على حكومات هذه الدول أن تتجاوز مقولات التغرير، بحكم السن او الاقران او مؤثرات وسائل الاتصال الحديثة، الى مرحلة أعمق من البحث، يتم خلالها التنقيب عن الدوافع التي جذبت هؤلاء الفتية إلى مسرح الجريمة، وهذا لا يتم في ظل سياسات الصمت التي تفرضها الحكومات عند مناقشة مثل هذه المشكلات، فتجاهل جماعات العنف، وغض النظر عن دعاته ومؤيديه، والتراخي مع الاثارات المذهبية التي تشعل الصدور ضد نظراء الوطن، من شأنه أن يعمق من النزوع نحو الجريمة، ويسمح بنمو خلايا العنف السرطانية تحت رعاية أجهزة الدولة ومؤسساتها الرسمية. من السهل إلقاء تبعات الجريمة على اسباب واهية كاتهام دول الجوار، ومن السهل تمييع مناقشة السبب وراء تزاحم الميادين المتوترة بأبناء الخليج، وتحولهم إلى مفخخات خطرة تسرق أحلام الاستقرار من الشعوب الأخرى، الا انه من الصعب التخلص من ارتدادات الجريمة على الداخل الوطني، ومن الصعب إعادة ضبط ايقاع حركة تلك الجماعات مرة أخرى. فالقليل جداً من المتورطين في حفلات الدم قادرون على العودة واعلان التوبة بعد أن تتخضب اياديهم بدماء الابرياء، أما الأغلب فإنهم سيعيدون ترتيب فروضهم الجهادية لتستهدف الأرض التي نشأوا عليها. دول الخليج اليوم، وكما بينت أحداث الاسابيع الماضية، لم تعد محصنة من العنف، بل أصبحت هدفاً واضحاً لجماعات القتل والتدمير، ولا يبدو أن ثمة مخرجاً اليوم أمامها سوى عبر بوابة التأسيس الواعي «للمواطنة المنتجة»، وإعادة الاعتبار إلى دولة المواطن، وهي الدولة فوق الكيانات والانتماءات والولاءات، التي لا تشعر مكوناتها أنها عرضة للعبث الحكومي لتمرير مصالح خاصة، ولا بأنها رهينة سياسات الهيمنة. هذه الدولة هي الوحيدة القادرة على الاستفادة من أبنائها، والقادرة على تسخير عقولهم وامكاناتهم للمصلحة العام بدلاً من دفعهم دفعاً إلى البحث عن حاضن آخر، ربما يكون أكثر دفئاً على المستوى الشخصي، ولكنه أكثر دماراً على مستوى الدولة والمنطقة.
* باحث كويتي