لأنّ كلّ أشكال التضامن «المعنوي» مع فلسطين، والهتاف والتأثّر والدعاء، لا تختلف عن الخروج في تظاهرة اوروبية ضد الاحتلال، ولأن الفلسطينيين، طالما انك لا تشاركهم في مأساتهم ولا في مقاومتهم، لا يحتاجون الى رأيك ونصيحتك، فإن الموضوع الأجدر بالمقاربة على الساحة العربية ــــ في هكذا أيام ــــ يتمحور حول المسؤولية المباشرة لحكومات هذه المنطقة وحكّامها عن الشقاء الذي يعيشه الشعب الفلسطيني.
نحن لا نتكلّم هنا بمقاييس العمل العسكري المباشر و»تحرير فلسطين» وانقاذ أهلها، فالتاريخ أثبت أن اجتثاث الصهيونية لم يكن يوماً هدفاً جدياً للنظام العربي. في كتابه الشهير عن العلاقات بين الصهيونية والعرب، مثلاً، يشرح المؤرخ افي شلايم كيف أنه، في السنوات التي تلت، مباشرة، النكبة وتهجير الشعب الفلسطيني، تلقت الحكومة الاسرائيلية عروضاً لاتفاقات سرية، أو مبادرات لـ «جس النبض»، من كل الدول المحيطة بها بلا استثناء. أي أن هذه الحكومات كانت، منذ البداية، متأقلمة مع وجود الكيان الصهيوني وتسعى للتعايش معه.
حتى في المجال الاقتصادي ــــ الذي لا يستلزم حرباً ولا صراعاً ــــ فعل «اخوة» الفلسطينيين كل ما في وسعهم لتأمين استمرار وازدهار الاستيطان الصهيوني. ولمن يستهين بأهمية المقاطعة كسلاح اقتصادي، تكفي مراقبة الفترة بين 1993، سنة توقيع اتفاقية السلام وفتح العلاقات بين اسرائيل وأكثر دول العالم، وعام 2000. في تلك المرحلة القصيرة، تضاعف الناتج القومي الاسرائيلي مرتين، وانهالت الاستثمارات الخارجية، وانطلق «الاقتصاد الجديد» في قطاعات التكنولوجيا والصناعات المتخصصة. حتى في المظهر العام للبلد ومستوى الشوارع والبنى التحتية، يقول من يزور الكيان باستمرار إن اسرائيل عبرت، في تلك المرحلة، من دولة أقرب الى «العالم الثالث» الى دولةٍ أشبه بـ «الدول المتقدّمة». أكثر هذه الاستثمارات لم تكن لتحصل لو أن الشركات الكبرى كانت مخيّرة بين العمل مع اسرائيل وبين الأسواق العربية. لم يكن أحد ليموّل مشاريع طاقة كبرى، أو مصانع لانتاج الشرائح الدقيقة، في بلدٍ يتعرّض ومنتجاته للمقاطعة المنهجية ويتم التشكيك بشرعية وجوده (ومن هنا ايضاً، فإن اسرائيل تحتاج فحسب الى «عملية سلام» جارية، وليست في وارد عقد سلام «حقيقي» ودفع كلفته، وهذا ما فهمه اليمين الاسرائيلي قبل اليسار) .
عام 1994، أوقفت دول مجلس التعاون الخليجي العمل بنظام «اللائحة السوداء». وقواعد المقاطعة ــــ التي دفعت الولايات المتحدة، في السبعينيات، الى سنّ قوانين متشددة تجرّم الشركات الأميركية التي تنصاع لها ــــ لم تُطبّق يوماً على نحوٍ جدّي وصارم. لا أحد يعرف حجم العلاقات التجارية (غير المعلنة) بين الكيان الصهيوني ودول الخليج اليوم، ولكن سيمون هندرسون (مدير برنامج الخليج والطاقة في مركز واشنطن ــــ الصهيوني ــــ لدراسات الشرق الأدنى) وصف رقماً احصائياً للتبادل التجاري أطلعه عليه مسؤول خليجي بأنّه «يخطف الأنفاس».
في الماضي، أطلق الصهاينة حجة لتبخيس القضية الفلسطينية ومكانتها لدى الجماهير العربية، تقول بأن الشعارات الصاخبة المناصرة لفلسطين لا تعبّر عن همٍّ أصيل لدينا، بل هي واجهة تستخدمها الأنظمة لتصدير مشاكلها الداخلية وصرف النظر عنها. منذ سنوات، استورد قسم من «الليبراليين» العرب الحجة نفسها ليرموها في وجه الأنظمة «الثورية» وتراثها (وكل من يعتبر فلسطين قضيته)، قائلين بأن القضيّة ما هي الا «أداة» خطابية، استخدمتها السلطة لتبرير الاستبداد. في الحقيقة، هناك بالفعل من ينطبق عليه هذا المنطق، وهي دول «الاعتدال» التي رفعت لواء الدفاع عن فلسطين وهي تتآمر عليها، وقامت، باسم الأخوة والعروبة، بالتدخل «الأبوي» في الشأن الفلسطيني، ودوماً في اطار المشاريع الغربية والاسرائيلية لإدامة الاحتلال وتصفية القضية.
نشر سيمون هندرسون، المذكور أعلاه، بحثاً عن العلاقات الاسرائيلية ــــ الخليجية (وعد في مقدّمته بأن لا «يكشف» الا عن المعلومات المتوافرة في المجال العام)، يظهر جانباً من الحلف القائم بين تل ابيب وعواصم الخليج. يقول هندرسون مثلاً إنّه كان يعرف أن بين الرياض وتل ابيب قناة تواصلٍ استخباراتي، وكان يعتبر أنها تأسست في عهد الملك فهد، الذي أوصى مدير مخابراته، تركي الفيصل، بالإشراف عليها. غير أن شهادات جديدة أظهرت له أن هذا التواصل قائم على الأقل منذ أيام كمال أدهم، الذي أدار المخابرات العامة السعودية بين 1965 و1979. بل إنّ هناك ممثلية اسرائيلية دبلوماسية تعمل اليوم بشكلٍ سري، ورسمي، في دولة خليجية ما ـــــ وسفير خليجي في واشنطن اشتكى من أن نظيره الاسرائيلي لا يحفظ المظاهر، فيرسل اليه باستمرار دعوات رسمية لحضور المناسبات «الوطنية» التي تقيمها سفارته.
هذه الخلفية تشرح لماذا نسمع اليوم عن تفاوض خليجي لشراء أنظمة دفاع صاروخي اسرائيلية، بعشرات المليارات، ونتنياهو يصرّح علناً لأعضاء الكنيست بأن اسرائيل في وحدة حال «مع مصر والأردن ... ومع دول عربية كثيرة في المنطقة». وهذا كله جرى في الأيام الماضية، بينما اسرائيل تعدم الأطفال الفلسطينيين في الشوارع. درسٌ تعلمناه في لبنان عام 2006، هو عمق الدور العربي في حروب اسرائيل ضدّنا. واليوم، قبل التعاطف مع أطفال الحجارة أو التفجّع على الأقصى، حريّ بـ «عربي الاعتدال» أن ينظر الى دور أنظمته ويتذكّر أن الفلسطينيين ــــ رغم تعاطفه الصادق ــــ وحيدون في وجه الصهيونية، ولكن اسرائيل ليست وحيدة في حربها عليهم.