لا شك أن أي مراقب محايد سيصاب بالذهول من المواقف التي أطلقتها جهات إسلامية متعددة استنكاراً وإدانة للتدخل الروسي في سوريا، حيث أثبتت هذه الجهات أنها لا تلتزم الحد الأدنى من المفاهيم الإسلامية الثابتة والبديهية، حيث أصبح العداء للنظام السوري هو الأصل وعليه تبنى المواقف وتطلق الفتاوى وتحدد الاتجاهات...
وبالتالي فبهذا الاعتبار يصبح الأميركي صديقاً وحليفاً إذا ما ساعد في مشروع إسقاط النظام السوري حتى لو كان حليفاً رئيسياً وداعماً دائماً للكيان الصهيوني، حتى ولو كان سبب مصائبنا المتكررة منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، وكذلك تصبح روسيا عدواً حتى لو لم يكن تاريخها بالقذارة والحقارة الأميركية نفسها، وبالسياق نفسه... فإنه يمكن أن نصالح إسرائيل أو أن نؤجل عداوتها ريثما ننتهي من موضوع إسقاط النظام السوري، ولا بأس أن نغض الطرف عن معاناة أهلنا في فلسطين، كما أن الآيات الكريمة تصبح خاضعة لتفسير جديد:
فلم يعد الإسرائيلي الصهيوني أشد الناس عداوة للذين آمنوا... ولم تعد للمقاومة وللممانعة أية قيمة، لأن النظام الذي يدعمها أو يقوم بها قد حُكم عليه بالإعدام المذهبي، وفق مقاييس أميركية لا علاقة لها بالإسلام.
قُلبت المفاهيم وزُوّر القرآن وعُطلت الأحاديث النبوية وأصبح الجهاد المزعوم في سوريا أولى بكثير من الجهاد في فلسطين، وأصبحت كل الواجبات الإسلامية معطلة أمام الواجب الأكبر: إسقاط النظام السوري.
وظلت هذه الأولوية تعادل عندهم شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، حتى بعد أن تبين أن المعارضات السورية عاجزة عن الإمساك بدفة الأمور رغم الدعم الغربي والعربي والإسلامي لها وعلى الصعد كافة.
وظلت هذه الأولوية على النسق نفسه حتى لو كان البديل من النظام السوري هو داعش وأمثاله بكل جرائمه وفجوره: من سمح لهم ومن أعطاهم الحق بتغيير الأولويات الإسلامية والوطنية والتاريخية ولمصلحة من؟

إنّ هذا الانحراف الشديد يجعل الإسلام نفسه في دائرة الاتهام


واذا بهم أيضاً يُسبغون على التدخل الروسي ألقابا جديدة، فهو احتلال أو عدوان أو مستنقع يشبه مستنقع أفغانستان عام 1979... الخ.
وكأن هؤلاء فضلاً عن جهلهم بأولويات الدين الحنيف وثوابته، هم جاهلون بالتاريخ والسياسة، فأين الاحتلال؟ وأين العدوان؟ وأين ضرب المدنيين؟ ماذا عن ضرب المدنيين في اليمن؟ هل يصبح حلالاً هنالك وهو ثابت وموثق، وحراماً وهو غير ثابت وغير موجود أصلاً من خلال التدخل الروسي.
وعندما دخل السوفيات إلى المستنقع الأفغاني كان قد دخل في مواجهة شعب مباشرة، هل التدخل الروسي اليوم ضد إرادة الشعب السوري؟ وهل داعش والنصرة والمعارضة كلها بشكلها الذي آلت إليه تمثل الشعب السوري أكثر من النظام الذي صمد خمس سنوات في مواجهة مؤامرة دولية – عربية متعددة الجهات؟ فليستيقظ هؤلاء من غفوتهم ومن تعصبهم الأعمى الذي أدى بهم إلى المهالك ولا يزالون مصرين، كالقائل: عنزة لو طارت.
نحن لم ندافع مرة عن النظام السوري والأخطاء التي يرتكبها وما يحصل من انتهاكات لحقوق الإنسان، ولكن كل ما ينسب إلى النظام السوري سواء صح أم لم يصح وسواء بالغت فيه وسائل الإعلام المشبوهة أم لم تبالغ، يصبح مقبولاً أمام انتهاكات الآخرين المغطاة بالفتاوى الكاذبة والمواقف المنحرفة، فضلاً عن الاتجاه العام، الاتجاه العام للأمة الواجب اتباعه، هو معاداة المعسكر الغربي التي تقوده أميركا وإسرائيل ولا تنازل عن هذه الثابتة الرئيسية وفق أوهام السياسيين ومنتحلي الصفات الإسلامية المتعددة... ولا حول ولا قوة إلا بالله...
ان هذا الانحراف الشديد يجعل الاسلام نفسه في دائرة الاتهام، لأن هنالك من يبحث عن أخطاء وخطايا يلصقها بالإسلام وليست كل العقول قادرة، سواء عن حسن نية أو سوء نية، على التمييز بين ما يأتي من الإسلام وما يأتي من «اجتهاد» المجتهدين.
لقد اثبت هذا الموقف المخزي حقيقة كان يعلنها كثيرون وكنا بشكل أو بآخر نجد أنفسنا في حالة الدفاع عنهم، قصدت الجهات التي تدّعي أنها الإسلام السياسي... اليوم بعد تجربة السنوات الخمس الأخيرة وصولاً الى هذا الموقف نقول: نعم الذين يدعون تمثيل الإسلام سياسيا قد انتهوا ولا يمكن ان يمثلوا الاسلام سياسيا بعد الآن... ولا بد من اجتهاد جديد، لا بد من ظهور جهة او جهات تفهم البعد الحضاري للاسلام ولا تخطئ في ترتيب الاولويات ولا تبيع المبدأ مقابل مصلحة موهومة ولا تناور بالمبادئ والمسلمات وتخلط بين الاستراتيجي والتكتيكي... الخ.
ولا بد أن نوجه كلمة للعلمانيين الذين أصلاً لم يكونوا يوماً مقتنعين بشيء اسمه الاسلام السياسي ويفضلون لفظة «اسلامويون» على اسلاميين، في اشارة الى انهم ينتحلون صفة الاسلام ولا يمثلونه فعلاً.
نقول لكم: نحن معكم الى هنا، ونقول لا بد في المقابل من جهات تمثل الاسلام تمثيلاً حقيقياً كما هي الشعارات الايرانية مثلاً، فضلاً عن الممارسات العالية، بقيت فلسطين في اعلى سلم الاولويات، ثم مواجهة الاستكبار العالمي وعلى رأسه أميركا، ثم وحدة الامة... الخ.
هذه الاولويات التي لا يمكن ان تستبدل ولا يمكن ان تكون اية جهة تدعي تمثيل الاسلام سياسياً لا يمكن إلا ان تتبناها... وان كانت ايران والمحور الذي تمثله والمقاومة التي تتبناها قد سارت بهذا الاتجاه بشكل فاجأ المراقبين جميعاً، فإنها لن تستطيع بالتأكيد ان تتجاوز الحاجز المذهبي الذي يمنعها من ان تمثل الاسلام السياسي كاملا، إلا ان هذا لا يمنعها من ان تكون قدوة للجهات الاسلامية كافة التي تدّعي تمثيل الاسلام سياسياً.
يعني باختصار من اعتبر ان فشل الاسلام السياسي المعاصر يعني فشل الاسلام هو واهم جداً، ولن تلبث التجربة حتى تنتج اسلاماً سياسياً حقيقياً يقود الامة الى النصر المؤزر والوحدة وزوال اسرائيل، وما الى ذلك من شعارات كبرى، وليس ذلك على الله بعزيز {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَرَاهُ قَرِيباً (7)} (المعارج).