لا يعرف على وجه الدقة، السبب المباشر الذي دفع انتفاض قنبر الساعد الأيمن للنائب أحمد الجلبي، أحد أقطاب «التحالف الوطني» الذي يجمع الأحزاب الإسلامية الشيعية الحاكمة في العراق، والذي تولى منصب نائب رئيس الوزراء في عهد إبراهيم الجعفري عام 2005 وأحد مرشحي هذا التحالف، لمنصب رئيس مجلس الوزراء، الحاكم الفعلي والتنفيذي في البلاد خلال فترة «تحالف أربيل» وما بعده، للإدلاء بهذه الإفشاءات الخطيرة والاعترافات المدوية عن فساد زعيمه السابق والتي لم تكن مجهولة تماماً للكثيرين، إنما كانت تعوز القائلين بها الأدلة الملموسة والموثقة.
وقد لا يعدو الأمر كونه انشقاقاً جديداً في قيادة حزب الجلبي «المؤتمر الوطني العراقي» دفع أحدهم للتصرف على الطريقة الشمشونية و»هدم المعبد على من فيه». غير أن صمت قنبر طوال ثلاثة عشر عاماً المنصرمة على فضائح سيده، وما أشيع عن أنه هو ذاته استولى قبل فترة على مليوني دولار من رصيد محطة آسيا التلفزيونية التابعة لحزب الجلبي، لا يشير من كل بُدٍّ إلى أن هناك أسباباً ودوافع وطنية أو إنسانية دفعت الشخص المنشق لأن يهرع بما في حوزته من وثائق وأدلة إلى أقرب قناة فضائية عراقية متخصصة بهذا النوع من «المفرقعات» السياسية.
والواقع هو أن الجلبي وكذلك مساعديه الأقربين كانتفاض قنبر وآراس حبيب لم يكن قد سُمع بأسمائهم قبل احتلال العراق في عام 2003 بعام أو عامين كأغلب رجال النظام «الجديد» الذي أقامته القوات المحتلة، ولكنهم سرعان ما أصبحوا من رموز ورجالات هذا النظام، وتم تسويقهم تحت الضوء المحسوب للإعلام الأميركي والغربي عموماً كرجال دولة يخوضون غمار تجربة «ديموقراطية» على الطريقة الأميركية / النسخة المخصصة للمحميات والدول التابعة!
وسيكون من المفيد التذكير أنه، وطوال أعوام مضت، قبل وبعد الاحتلال، تصدى كتاب عراقيون وطنيون، ومن اليسار الديموقراطي غير المتحزب غالباً، لأمثال الجلبي، في حملات رصد وكشف تحليلية، معززة بما كان يتوفر من نتف أدلة ووقائع تفرزها حركة هؤلاء وأداؤهم السياسي اليومي، وكان إعلام الاحتلال وحليفه الإعلام العراقي التابع له يكرر دون ملل مطالبته هؤلاء المتصدّين بتقديم أدلة ملموسة لتعضيد اتهاماتهم وإلا فليخرسوا، أو فليكونوا عرضة لتشويه السمعة بوصفهم من المدافعين عن بقاء نظام الدكتاتور الدموي صدام حسين لأنهم وقفوا ضد الاحتلال ومآسيه المستمرة والتي بلغت درجة حرب الإبادة ضد العراقيين!

أغلب ما كشف عنه النقاب في اللقاءات مع قنبر يتميز بخطورة استثنائية


أما اليوم، وأمام هذا الوابل من الأدلة والوقائع الموثقة بالأرقام والأسماء والإحداثيات ضد أحد أقطاب النظام، فقد انتقل المدافعون عن الفساد ممثلاً بالجلبي إلى أسلوب آخر هو التشكيك بالوسيلة الإعلامية التي نقلت اعترافات قنبر وهي قناة إخبارية تدعى «البغدادية» يملكها رجل أعمال عراقي يقيم في الخارج. ورغم أن هذه القناة من النوع الذي لا تمكن تزكيته واعتباره مثالياً في الأداء والخلفيات ولكن التشكيك فيها وفي صدقيتها طريقة لا جدوى منها في الدفاع عن الطرف المفضوح أو المتهم لأن المصداقية، بكل بساطة، لا تتعلق بالأداة الناقلة بل بطبيعة الوثائق والوقائع المنقولة والمقدمة من خلالها وما يفعله المدافعون عن الجلبي ليس إلا خلطاً بائساً للأوراق يلجأ إليه المفلسون والمحرَجون في حالات كهذه.
أما بخصوص توقيت هذه الطبعة الجديدة من فضائح سياسية قديمة عمرها من عمر النظام فهي تأتي في فترة نشط فيها المعني بالأمر –النائب أحمد الجلبي – في وسائل الإعلامية العراقية كأحد أعداء الفساد إذ لا يكاد يمر يوم إلا ويطل فيه على قناة فضائية أو صحيفة أو موقع من مواقع التواصل الاجتماعي لينثر أرقامه ومعلوماته عن فضائح عدد من المسؤولين وبخاصة من المقربين لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي. وقد ربط البعض بين هذا النشاط للجلبي وتحريك أحد مساعديه ضده من قبل المتضررين من نشاطه وهذا أمر راجح جداً في ضوء التفسخ والخراب الشاملين الذين يعاني منهما هذا النظام.
يمكن القول إن أغلب ما كشف النقاب عنه في سلسلة اللقاءات التلفزيونية المستمرة مع قنبر يتميز بخطورة استثنائية، ومنه ما مسَّ بشكل مباشر وخطير حياة المواطنين وثروة البلد الاقتصادية والثقافية. هنا عرض تحليلي لأغلب ما ورد من إفشاءات:
- أول السرقات التي قامت بها كوادر حزب الجلبي وتحت إشرافه المباشر هي سرقة رواتب الموظفين بعد يومين أو ثلاثة على احتلال بغداد مباشرة وبلغت 350 مليون دولار تم تهريبها إلى لبنان، بعد أن أعطوا حصة من هذه الأموال للعسكريين الأميركيين وتحديداً للعقيد المتقاعد «سيل» مستشار حاكم العراق الأميركي الجنرال غاي غارنر. وقد اعترف بهذه الواقعة المدعو محمد محسن الزبيدي وهو مقرب من الجلبي أيضاً ومات اغتيالاً بالسم – كما راج حينها -في بيروت لاحقاً، وأكدها قنبر مع بعض الإضافات.
- سرقة مجموعة كبيرة من آثار الحضارات العراقية والتي تعود لآلاف السنوات، وقد نقلها إلى إسرائيل الجلبي وزميله في حزبه النائب المعروف بصداقته للكيان الصهيوني مثال الآلوسي وباعاها هناك وأكد قنبر أن الجلبي زار إسرائيل مرات عدة ولم يعلن زياراته مثلما فعل زميله الآلوسي الذي انشق عنه لاحقاً وأسس حزباً خاصاص به.
- سرقة النسخة العراقية النادرة من التوراة في السنة الأولى من الاحتلال وتسليمها لدولة إسرائيل.
- الاستيلاء على أراض شاسعة وعقارات كثيرة من بينها «المبنى الصيني» والذي كان مقرّاً لإحدى دوائر مخابرات النظام السابق. ولا تزال تلك الأراضي والعقارات وبعضها مملوك لمواطنين عراقيين، في حيازة الجلبي ومن بينها بيت الطبيب البغدادي المعروف إسماعيل التتار والذي أعدمه نظام صدام فقد استولت جماعة الجلبي على بيت الرجل ورفضت إعادته إلى أصحابه حتى يومنا هذا.
- سرقة سيارات وعربات وأجهزة مختلفة تعود للدولة. ومنها سيارات سرقت واستعملت في تنفيذ عمليات تفجير استهدفت المواطنين في بغداد، وخصوصاً في حي المنصور الذي يقيم فيه الجلبي ويقع فيه مقر حزبه. وعن هذه الواقعة الخطيرة يقول قنبر إنَّ نوري المالكي علم عن طريق جهاز المخابرات بتلك التفجيرات التي تحدث بواسطة هذه السيارات المسروقة من قبل حزب الجلبي، وأنه نقل تلك المعلومة إلى الجنرال الأميركي باتريوس «قائد الجيوش الأميركية» خلال اجتماع سري جداً عقده معه، وعلى إثرها تم تجريد الجلبي من مسؤولية لجنة الخدمات التي شكلت عام 2008 وأنيطت مسؤوليتها بالجلبي ذاته.
- إقامة بنوك أهلية متخصصة في المضاربات والتعاملات المالية غير المشروعة التي تعتاش على أموال المصرف المركزي العراقي، ومنها «مصرف البلاد الإسلامي» الذي يديره آراس حبيب الرجل الثاني في حزب الجلبي، وإقامة مصرف «تي في آي» الذي كان يديره حسين الإزري أحد مساعدي الجلبي وقد اتهم هذا المصرف بإلحاق أضرار بالغة بالاقتصاد العراقي وتهريب أموال طائلة إلى الخارج. وقد حكم على الإزري بالسجن غيابياً لخمس عشرة سنة. ويسجل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي هذه الواقعة في لقاء تلفزيوني معه، قال فيه إنه بادر شخصيا لاعتقال الإزري واقتحم البنك بقوة أمنية بعد امتناع أجهزة امنية أخرى عن أداء المهمة، ولكن الإزري تم تهريبه من الباب الخلفي من قبل فوج الحماية الخاص بالجلبي، ونقل الى كردستان ومنها إلى الولايات المتحدة.
- كما كُشِف النقاب في هذا البرنامج الحواري عن علاقات سرية ربطت بين أحمد الجلبي ومخابرات نظام صدام حسين وعُرضت صور لوثائق سرية منها كتاب رسمي من رئاسة المخابرات العراقية برقم 3705 بتاريخ 1/12/1988 موجه إلى السفير العراقي في الأردن يأمر فيه بإقامة صلة ارتباط وتعاون مع الجلبي من قبل فرع المخابرات العراقية هناك. وكتاب آخر برقم 3725 بتاريخ 2/1/1989 من ديوان الرئاسة العراقية إلى السفير العراقي يأمره فيه بتبليغ الجلبي (شكر وتقدير الرئيس صدام حسين) لكل ما قام به من أجل النظام، ومن ذلك تبرعه بأموال طائلة لحساب النظام.
- وكشف قنبر النقاب عن كون الجلبي ومعاونيه، وهو من بينهم، كانوا قد أقاموا محطة لجمع المعلومات المخابراتية حول العراق، قبل وبعد الاحتلال، ترتبط – تلك المحطة – بوكالة المخابرات المركزية الأميركية «سي آي أيه»، مقابل مبلغ من المال يبلغ 350 ألف دولار شهرياً، يصب في حساب خاص بأحمد الجلبي من حساب الاستخبارات العسكرية الأميركية «دي آي أي». وذكر قنبر أنه علم من أصدقائه الأميركيين أن الرئيس جورج بوش غضب بشدة لمنح هذه المبالغ للجلبي وجماعته بعد أن اكتشف أن هذا الأخير قد خدعهم وورطهم في احتلال العراق وأمر بإيقاف صرفها.
ما تقدم ليس إلا «حزمة أولى» من الإفشاءات التي بُثت في الحلقات الثلاث من البرنامج التلفزيوني، ويبدو أن هناك المزيد منها.
والواقع فإنَّ أغلب هذه المعلومات ليست جديدة بل تكرر طرحها في مناسبات عديدة غير أن المدافعين عن الجلبي وأقطاب النظام الآخرين كانوا يطالبون دائماً بالأدلة الملموسة وهو ما كان من الصعب الحصول عليه من داخل النظام ويعتمد غالباً على تسريبات غامضة وتحليلات ترجيحية، أما الآن فمع وجود هذا الشاهد الذي قدم أدلة ووثائق وتفاصيل دامغة ومن داخل قيادة حزب الجلبي فسيكون من الصعب على المدافعين الاستمرار في ما هم فيه. غير أن الصمت هو السائد حالياً، فجميع وسائل الإعلام العراقية الرسمية وغير الرسمية، الحزبية والمستقلة تلتزم الصمت شأنها شأن جميع القوى والشخصيات السياسة المشاركة في نظام الحكم ومنها الشخص المعني – أحمد الجلبي – فلم يصدر حتى لحظة كتابة هذه السطور أي ردّ فعل.
إن فضائح بهذا الحجم، في أية دولة تحترم نفسها وشعبها، كفيلة بأن تثير ردود فعل وإجراءات فورية في غاية الأهمية والعمق من قبل المؤسسة القضائية أو الأمنية أو حتى الشريعية والتي يتبوأ فيها الشخص المعني مقعداً نيابياً، غير أن انتظار العراقيين سيطول كثيراً، وربما إلى ما لا نهاية له، لاتخاذ إجراء كهذا بحق الجلبي ومن معه، والسبب هو أنَّ «الحال من بعضه» لدى جميع أقطاب هذا النظام!
* كاتب عراقي