قاسم عز الدين * انتهت قمة الغذاء في روما كما بدأت بوعود عرقوبية «لمكافحة الجوع». لكنها انتهت هذه المرة بأقل ما يمكن من النفاق المعهود في قمم الغذاء والثمانية الكبار، سوى ميلودراما قصيرة كان بطليها جاك ضيوف رئيس منظمة «الفاو» وبان كي مون الأمين العام للحكم العالمي «الرشيد». فالزعماء الكبار تغيّبوا عن القمة، ولم يحضرها غير سيلفيو برلسكوني كي يتهرّب من جلسة محاكمته بتهمة الفساد. وقد وقع بطلا الميلودراما في «حيص بيص» ولم يبقَ أمامهما غير الندب ومشاركة الجائعين جوع يوم على ما قيل عنهما. في هذا الوقت كانت منظمات صغار المزارعين، والزراعة العضوية، والحقّ في الغذاء والأرض، والعولمة البديلة... تعقد قمة بديلة للضغط من أجل تغيير مسار سياسة «المساعدات» الملغومة في إلغاء الحق بالزراعة للغذاء المحلي والسيادة الغذائية. وتبادلت دروس تجاربها العملية في مجابهة سياسة رصد أموال «الدول المانحة» لتيسير أعمال شركاتها الغذائية في تعميم الزراعة المعدّة للتصدير إلى السوق الدولية، وتخريب الزراعة المحلية بالبذور المخبرية والمبيدات والأسمدة الكيماوية.
والحال، جاءت حصيلة قمة الغذاء في روما شحيحة قياساً إلى قمة السنة الماضية، قبل انفجار النظام المالي. فالسنة الماضية كانت حافلة بكرنفالات «مكافحة الفقر والجوع» التي أحياها كل المسؤولين عن مكافحة زراعة الفقراء وغذاء الجائعين، وعلى رأسهم البيت الأبيض والمفوضية الأوروبية، وصولاً إلى الفاو والبنك الدولي وصناديق الغذاء الخضراء والزرقاء. بدأ البنك الدولي في منتصف السنة الماضية حملة تمويل طارئة بقيمة 1.2 مليار دولار «لتوفير البذور والأسمدة للمزارعين على وجه السرعة». والتحقت فيه بعد شهرين قمة الثمانية الكبار في اليابان،حيث تبارى جورج بوش وجوزيه بارازو وبان كي مون في عرض المليارات «لمنح صغار المزارعين، وخاصة في أفريقيا، البذور والأسمدة وبعض الحاجات الأخرى». وسرعان ما لقي هذا التشجيع صدى طيباً في خاطر المؤسسات المالية والخيرية مثل الصندوق الدولي للتنمية الزراعية ومنظمات بيل وميلندا وغاتز. وتسابق الجميع على إنشاء برامج توزيع البذور والأسمدة «لمكافحة الفقر والجوع». فالأزمة المالية لم تكن قد انفجرت بعد، وكانت الدول الكبرى وشركات الغذاء والمؤسسات المالية لا تزال تراهن على الاستثمار في إزالة ما بقي من زراعة محلية، وخاصة في أفريقيا، واستبدالها بزراعة كيماوية معدّة للتجارة في السوق الدولية وبورصات المواد الغذائية. فقد بلغت المضاربات على مواد الغذاء ذلك العام 317 مليار دولار، وتضاعفت نحو 25 ضعفاً خلال 5 سنوات.
والحقيقة أن مكافحة الفقر والجوع في «العالم الثالث» لم تكن يوماً هاجس الدول الكبرى والمؤسسات الدولية، بل كان هاجسها، وما زال، محاربة زراعة الفقراء وغذاء الجائعين، وذلك بفرض نمط الإنتاج الزراعي الكيماوي الكبير المعدّ للتجارة في السوق الدولية وتغذية أصحاب القدرة الشرائية العالية. ففي الستينيات لم يكن الجوع آفة اقتصادية، بل كان نتيجة الحروب والكوارث الطبيعية أو نتيجة طرد الفلاحين من أرضهم. والغذاء كان لا يزال محليَّ الإنتاج والتوزيع والتخزين ونخْب البذور... وكان من أوليات الدول المستقلة حديثاً العمل على حل المسألة الزراعية في ضمان السيادة الغذائية وتصنيع فائض الزراعة، وإعادة الأراضي التي استولى عليها الاستعمار إلى الفلاحين. وبالفعل، قامت معظم الدول بأشكال من الإصلاح الزراعي، لكن الأراضي التي كانت مستعمَرات زراعية لم ترجع إلى الفلاحين، بل ذهبت إلى السلطة. ولم تعجز السلطة الفتية عن حل المسألة الزراعية (مقدّمة حل مسألتَي الديموقراطية والاستقلال الاقتصادي) فحسب، بل عجزت بسبب ذلك عن فك أواصر التبعية الاقتصادية التامة عن دول الاستعمار السابق. ولم تلبث أن تحوّلت التبعية الاقتصادية إلى تبعية سياسية في الستينيات فبدأ استفحال التبعية في تفكيك السيادة الغذائية وضرب نمط الإنتاج الزراعي المحلي.
صناعة الجوع الاقتصادي هي محو أصحاب المصالح تراث الزراعة المحلية وإبادة صغار المزارعين جوعاً
في منتصف الستينيات بدأ البنك الدولي ما سمّاه سياسة «الثورة الخضراء الكبرى»، في ضوء وصفة الإصلاحات الهيكلية الليبرالية الشهيرة. وسارت هذه السياسة على خطين: أ ـــــ تفكيك أجهزة الدولة المختصة بالسيادة الغذائية (تعاونيات الإنتاج والتسويق، تخزين الحبوب والبذور، هيئات التخطيط والإشراف والمراقبة...)، ب ـــــ ضرب نمط الإنتاج الزراعي المحلي الصغير، عبر استبداله بالزراعة الكيماوية ومبيدات الرش والبذور «المحسّنة»، وإعداد الزراعة مادة أولية خاماً في استثمارات كبيرة معدّة لتغذية الدول الصناعية والتجارة في السوق الدولية. وقد أدّت هذه السياسة إلى طرد صغار المزارعين من أرضهم نحو أحزمة البؤس في المدن وإلى نمو حيازات كبيرة مختصة في زراعة الخضار المعدّة مادةً أوليةً خاماً للسوق الدولية، مقابل تبعية متصاعدة في استيراد الغذاء الأساسي من الحبوب والزيوت ومشتقات الحليب... فالضحايا الأوائل لهذه التبعية هم قدامى صغار المزارعين وعائلاتهم، ما آل بهم إلى الجوع في أحزمة البؤس. ولم تخَف هيئات «المجتمع الدولي» والسلطات المحلية على الجائعين، بل خافت من الجائعين. في عام 1996 بدأت الهيئات الدولية وقمم الكبار تتحدث عن زيادة المساعدات الغذائية من 0.3% إلى 0.7% من الدخل القومي، «حفاظاً على الاستقرار الاجتماعي». وقصدت في البداية إفساد الذوق الغذائي المحلي بذوق الغذاء المستورد (القمح بدل حبوب الميل الأفريقي مثلاً)، ثم اكتشفت أن السلطة المحلية أفسد منها (المتاجرة ببيع المساعدات العينية)، فأبت على نفسها هذا العار المشين، إلى أن اهتدت باصطياد عصفورين بحجر واحد أثناء صعود الموجة النيوليبرالية: 1 ـــــ ترويج أعمال شركات الغذاء الكبرى في تعميم «المساعدات» من الأسمدة والمبيدات الكيماوية والبذور «المحسّنة»، على ما بقي من صغار المزارعين للقضاء على أثر الزراعة المحلية وفرض تبعيتهم الدائمة إلى شركات الغذاء. 2 ـــــ إطلاق العنان لحرية تجارة الغذاء (من طرف واحد، فالزراعة في البلدان الصناعية محمية ومدعومة بسخاء) ودعم الاستثمار الأجنبي المباشر في الأرض والزراعة المعدّة للسوق الدولية والمضاربة المالية. وفي أقل من خمس سنوات تضاعف عدد الجائعين، وهم قدامى المزارعين، ضعفين (ثلث البشرية مهدّد بالجوع). وقد لحظت الأمم المتحدة والهيئات الدولية آفة الجوع الاقتصادي في برنامج الألفية عام 2000 ووعدت بتخفيض عدد الجائعين إلى النصف عام 2012، لكنها داوت الجائعين بالتي كانت هي الداء، (مزيد من مساعدة الزراعة الكيماوية المعدّة التصدير). وها هو جاك ضيوف يعترف أمام العالم بأنّ صغار المزارعين يتعرضون لإبادة جماعية سنوية منظمة (6 ملايين ضحية في السنة) وأن أطفالهم يُقتلون جوعاً (قتيل كل 15 ثانية).
والمفارقة المُرّة هي أن صغار المزارعين كانوا دوماً كبش محرقة. فإنسان ما قبل العصر الصناعي ظل مهووساً في سلطانه على الفلاحين وتسخيرهم لتضخيم الحيازات الكبرى، ولم يمضِ قبل نقل هوسه إلى إنسان العصر الصناعي يميناً ويساراً، غرباً ثم شرقاً. ولا ريب في أن هذا الهوس هو الذي أدّى إلى تعميم الجهل بما يختزنه الفلاحون من معارف وخبرات. لقد أبدعوا في تهجين البذور ونَخبِها وجعلوها ثروة هائلة في تنوّعها وتكيّفها المستدام في بيئتها. لكن الهوس استبدل ثروة إنسانية لا تنضب، ببذور مخبرية نمطية عاقر لا تثمر من دون ضخّها الدؤوب بالسموم الكيماوية. وأبدعوا في اكتشاف نمط زراعي شديد التعقيد الهندسي والمعرفي، لكن الهوس الأخرق استبدله بخرافة نمط زراعي برّاني عن الأرض والبيئة والمناخ، بحجة زيادة الإنتاجية ووفرة الغذاء. وهي خرافة لأن 65% من سكان الأرض ما زالوا يحفظون رمق الحياة بفضل الزراعة العائلية الصغيرة.
صناعة الجوع الاقتصادي هي قرار أصحاب المصالح في محو تراث الزراعة المحلية وثقافتها وإبادة صغار المزارعين جوعاً. وهي ليست أزمة في توزيع الإنتاج الزراعي، بل هي آفة نمط إنتاج زراعة كيماوية معدّة للتصدير وتغذية ذوي القدرة الشرائية العالية في السوق الدولية. فالزراعة التي يمكنها مكافحة الجوع، هي نمط إنتاج آخر يكفل: توطين الزراعة، نظاماً زراعياً من داخل البيئة والمناخ ونظافة الأرض، ثبات المزارعين في أرضهم، أسعاراً عادلة تغطي إعالة الفلاحين.
* كاتب لبناني