محمد بنعزيز *ارتفعت في المغرب أصوات بعض الغاضبين يعترضون على زيارة تسيبي ليفني لمدينة طنجة شمال المغرب، لتشارك في الحوار والنقاش حول مستقبلنا. وقد طالب بعضهم باعتقالها ومحاكمتها، بينما أكدت جهات تمثل وزارة الخارجية الإسرائيلية أنها لا تخشى اعتقال وزيرة الخارجية السابقة والزعيمة الحالية لحزب كاديما أثناء زيارتها المغرب يوم 19/11/2009.
وإذا قارنا ضجيج الاعتراض وهدوء التأكيد، فإن الضجيج الإعلامي هو الذي يجلب الانتباه، لكنه يخبو لتنتصب الحقيقة في وجوه المعترضين فيبلعون الغصة. والحقيقة ليست معطاة، بل هي من مهمات الفكر النقدي الذي يرتفع عن الخطاب الشائع، عن الفكر اليومي، عن الرغبات والأهواء، وذلك لكي يتجاوز الغبار ويلمس الحقيقة، وهذا منطق سقراطي نادر في العالم العربي.
الحقيقة هي ما أكدته وزارة الخارجية الإسرائيلية: سلامة الزعيمة ليفني مضمونة، وهي في ضيافة الابن البار لوزير خارجية المغرب، وحضورها سيسلط أكبر تغطية إعلامية ممكنة لأنشطة معهد «أماديوس» الذي يترأسه إبراهيم الطيب الفاسي الفهري. وبمثل هذه التغطية، سيصير الشاب حيناً، على الورق وعلى شاشات التلفزة، شخصية مهمة في مصاف قادة دول العالم الذين شابوا قبل أن يصلوا إلى الواجهة، يعرفهم ويناقشهم في الشأن العام، وبذلك يتأهل ليرث مجد والده.
إن أولئك الغاضبين، الذين يعترضون على ليفني، لن يضمنوا سلامتها، لذا فمن الأفضل أن يبقوا في المعارضة إلى الأبد، وليبق الحكام في الحكم أيضاً إلى الأبد. ومن هنا فالتوريث ضرورة، لأن سلامة قادة إسرائيل ضرورة. هذا قياس لا غبار عليه.
وأنا هنا أكتب، دون أن أحمل أي حقد لابن الوزير الذي يصغرني سناً، والذي لم أقرأ له مقالة واحدة، وأعترف له مقدماً بأنه منظّر ومحلل سياسي أعمق من «العجوز» محمد حسنين هيكل وأبلغ من «الإرهابي» حسن نصر الله. وليسجل قضاء بلادي، الذي صار يحكم بالشبهة في الظلام على الصحافيين، ليسجل أني أكتب بأدب جم عن ابن الوزير، وعن كل أبناء قادة الدول العربية الذين يصطفون على رقابنا ليرثونا من آبائهم. وإذا شم القاضي سخرية مريرة فإني لست مسؤولاً عنها، بل تعود إلى انحرافي الشديد نحو قراءة كتب الأدب، فأرجو من القاضي أن يمنع كل كتاب يشمل محاكاة ساخرة، تجعل الأسطر الملعونة تقول أشياء يكون الصحافي، الحسن النية مثلي، بريئاً منها. بحسن نية شديد أقرّ بأن زيارة ليفني هي أحسن إشهار لولد وزير الخارجية، وهي أقصر طريق لتوريثه نفوذ والده بين رجال العهد الجديد، وهي كذلك لكل الذرية المباركة للزعماء العرب. فبهم سلامة إسرائيل وأمنها. وبها شهرتهم وتسويقهم في الغرب: منفتحين يصافحون قادة إسرائيل الملطخين بدم الفلسطينيين حتى الركب.
من هذا المنطلق، فإن الشقيقتين، أميركا وإسرائيل، لن تعترضا على عمليات التوريث وهي جارية على قدم وساق:
الأمراء السعوديون يرثون الوزارات من آبائهم، الأمير خالد نائب لوالده وزير الدفاع سلطان، محمد نائب لوالده وزير الداخلية نايف... ثم القذافي يعدّ ابنه ملكاً بدل السنوسي، علي عبد الله صالح بدل الإمام، حتى بوتفليقة الذي لا ابن له، أخرج شقيقه من الجارور ليؤلّف حزباً سيرث به الأمير عبد القادر...
مع هذا الطوفان التوريثي، ترتفع في الأشهر الأخيرة أصوات حرة ضد عمليات التوريث الجارية في العالم العربي، أصوات تدين تحويل الأوطان إلى ثروات شخصية تنقل من الأب للابن. وتعتبر التجربة المصرية الأكثر صعوبة، لأن مصر أم العرب، إن نجحت فيها التجربة يصعب الاعتراض عليها في بلد عربي آخر.
زيارة ليفني هي أقصر طريق لتوريث ابن وزير الخارجيّة نفوذ والده
أتضامن مع هذه الأصوات، ولكن ليس بإمكاني التسليم بتحليلها، فليست أميركا وإسرائيل سبب التوريث، بل هما مستفيدتان ومشجعتان عليه فقط، وسيأتي يوم لن يجد قادة إسرائيل بلداناً يزورونها بأمان غير الدول العربية. ومن هذا المنطلق، سينتصب جمال مبارك رئيساً على رقاب المصريين، لأنه صمام أمان لاستمرار اتفاقية كامب ديفيد، ولاستمرار مصر وسيطاً لا طرفاً في الصراع العربي الإسرائيلي، وفي هذا فائدة هائلة، يريد ولد وزير خارجية المغرب الاستفادة من ثمارها، لذا ينظم منتدى أماديوس «أيام الشرق الأوسط 2009» ليتحول إلى «ملتقى ضروري لأصحاب القرار السياسيين والاقتصاديين في منطقة أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا».
ومن باب إثبات حسن نيتي لن أتساءل: لماذا لا يتناول منتدى الابن أزمة الصحراء والعلاقة مع الجزائر؟
التوريث صمام أمان لاستمرار الوضع الخارجي الذي تهيمن فيه إسرائيل على المنطقة العربية، ولاستمرار الوضع الداخلي. وهذا هو السبب الرئيسي لنجاح التوريث، فالمجتمعات العربية تعيش أشكالاً تنظيمية تنتمي إلى ما قبل الدولة، والشكل المهيمن هو القبيلة، التي تنص أعرافها على أن تمثّل القرابة عاملاً سياسياً لاستمرار الاستقرار، وذلك عن طريق إبعاد الغرباء من القيادة، وحصرها بين الأبناء وأبناء العم، لصون السلطة والثروة، فلا تنتقل للخصوم، ولا يأتي عهد جديد يفتح ملفات النظام البائد للحساب والمساءلة، فيظهر حجم النهب والفساد اللذين سيسترهما التوريث.
تجد هذه الحقيقة امتدادها في الحياة الاجتماعية. ففي الكثير من المدن المغربية، ورغم الانتخابات البلدية، تمكن الأبناء من وراثة مناصب آبائهم، والكثير من هؤلاء كانوا وجهاء منذ عهد الاستعمار. مما يؤكد أن نظام الأعيان هو الشكل الذي تتحرك حوله بنية المجتمع، ونظامهم هو الذي يجعل القرابة والمصاهرة والولاء الشخصي أشكالاً لتنظيم العلاقة وتوزيع الغنائم. حين سكن هؤلاء الأعيان المدن، احتفظوا بشكل العلاقة القبلي، وحتى حين أسس بعض الأعيان الإقطاعيين أحزاباً بعضها اشتراكي، استمر التوريث واستمرت ألقاب «البيك» و«الباشا» و«مولاي الشريف» التي ينادى بها اليوم على زعيم الحزب الشيوعي المغربي (صار اسمه التقدم والاشتراكية حالياً). ما زالت آليات القبيلة تحكم النظام السياسي العربي، ولا يبدو في الأفق أن هذا سيتغير، بالرغم مما سيسببه هذا التقدير، المتشائم لكن الحقيقي، للحالمين بالتغيير. لتظل ثقافة الأعيان مهيمنة، وقد عرّفها عبد الله حمودي في كتابه «الشيخ والمريد»، حيث حلل النسق السياسي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة. يقول حمودي: «فموجب هذه الثقافة، يصير أحد الأعيان شيخاً (حتى دون شارب) في مجاله، حال حصوله على موافقة الأشياخ الأعْلين بعد المخالطة والمواظبة وتبادل الأفضال وعلامات الخدمة المخلصة الوفية» (ص 175). وهو يمرر ويورّث هذه الموافقة المباركة لولده، فيصير شيخاً، وينادي عليه الشيخ إبراهيم أو سعد أو سيف أو جمال... ويتعزز وضعه بموافقة الأعلين في واشنطن وفي حزب والده ووزارته، فيتقبله أعضاء القبيلة، التي صارت دولة بفضل العلم والنشيد الوطني.
للإشارة، قضى الإغريق 900 سنة لينتقلوا من حالة النظام القبلي إلى النظام المدني في المجتمع اليوناني، وفي القرن الخامس قبل الميلاد فقط ظهر هيراقليطس، وظهرت مدينة أثينا حيث تفتحت عقلية جديدة، تقدر الإبداع والمعرفة والنقد والحجج. حينها لم تعد الحقيقة سراً غيبياً مقتصراً على الكهنة. لقد أعلن هيراقليطس أن الإنسان لا يستطيع أن ينزل في النهر نفسه مرتين. في العام العربي بداية القرن 21، ينزل علينا الزعيم نفسه كل جيل، لأننا ما زلنا في حضن القبيلة، ولهذا فإني أرى، وقلبي يعصر دماً، أن المستقبل للأبناء البررة (من البرّ لا من البار)، ليرثوا نفوذ آبائهم وثرواتهم، التي صنعوها بعرق كراسيهم.
* صحافي مغربي