محمد أحمد علي المخلافي * تقف السلطة في اليمن عاجزة عن مواجهة مخاطر تفكك الكيان الوطني والانزلاق إلى الفوضى، وهو عجز موضوعي وسياسي مردّه الأساسي إلى رفض هذه السلطة إقامة دولة القانون، وانتهاج سياسات لا تستهدف غير الاستمرار في احتكار السلطة وتوريثها، وقد ترتّب عليها إيصال البلاد إلى حالة انقسام وطني، وانسداد سياسي، وأزمة اقتصادية غير مسبوقة.
تحدي الانقسام الوطني في اليمن يعبّر عن نفسه بالرفض المطلق للسلطة القائمة وسياساتها، الأمر الذي قاد إلى تآكل شرعيتها. فهي لم يعد بإمكانها السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، واستمرار هذا التدهور، كما تظهر التجارب في حالات مماثلة، كحالة الصومال وأفغانستان، يجعل تقسيم البلاد إلى مناطق مستقلة أمراً قائماً، وهو خطر يعبّر عن نفسه في هذه اللحظة بالقضية الجنوبية وحرب صعدة، وهناك إشارات تظهر امتداد هذا الرفض إلى مناطق أخرى في البلاد كمحافظة تعز ذات الثقل السكاني الكبير.
لقد قاد رفض السلطة لإزالة آثار ونتائج حرب 1994 ومواجهة الحراك الجنوبي بالقمع وسقوط العشرات من الضحايا بين قتيل وجريح والاعتقالات لقادة التجمعات السلمية، إلى انتقال الحراك في الجنوب إلى مستوى جعل الصراع في إطار يهدد وجود الدولة، ويحمل خطراً حقيقياً على وحدة الكيان الوطني. إذ صار منقسماً اليوم إلى حراك سلمي وحراك مسلح تقوده عناصر من القاعدة. وفي الحراك السلمي ثمة من يدعو إلى «فك الارتباط»، أي العودة إلى التشطير. وعجز السلطة عن إيجاد الحل، أو بالأصح رفضها للحلول، سوف يجذّر هذه الدعوة، ويفشل جهود المعارضة لإيجاد حل سياسي للأزمة، ويجعل الانفصال الخيار الوحيد.
والحديث عن العودة إلى التشطير هي حالة من التفاؤل، إذ إن الانفصال قد يمزّق البلاد إلى مناطق مستقلة بعضها عن بعض في الجنوب والشمال، ولا سيّما أن قيادة الجماعات الجهادية التي تسلّلت إلى قيادة الحراك، تنتمي إلى عائلات كانت تحكم مناطق في الجنوب أيام السلطنات والمشيخات. ولأن القضية الجنوبية مدعومة بتأييد شعبي واسع، فإن الاستمرار في رفض إيجاد الحلول السياسية لها يجعلها الخطر الذي يهدد الكيان الوطني بالتفكّك. ومن ثم، فإن حل القضية الجنوبية، وكذلك إيقاف الحرب في صعدة، يمثّلان المدخل الأساسي لمواجهة هذا الخطر، ولإصلاح أوضاع اليمن ومنعها من الانزلاق إلى الفوضى والتمزّق.
وجود القوات المسلحة السعودية داخل الأراضي اليمنية أمر يطيل أمد الحرب في صعدة
من النظرة السطحية، قد تبدو قضية صعدة مختلفة عن القضية الجنوبية، وأن أسبابها أخرى، مثل حالة التهميش وعدم وصول مشاريع التنمية، وعوامل الصراع المذهبي بسبب مزاحمة الجماعات السلفية السنية للمذهب الزيدي السائد تاريخياً هناك، والعامل السلالي وتوريث السلطة. غير أن النظر بعمق إلى حرب صعدة يبيّن أن أسبابها مشتركة مع القضية الجنوبية، إذ إن ظهور الحوثية كان نتاجاً من نتائج حرب 1994 ضد الجنوب، الذي ترافق مع مسعى السلطة إلى تمزيق الأحزاب، وخلق بؤر توتر ومواجهات بين الجماعات المذهبية، وسيطرة السلطة بالشراكة مع التنظيمات الجهادية السلفية على المجتمع بكل مكوّناته، بما في ذلك المؤسسة الدينية، وغياب دولة القانون، وتخلي الدولة عن مسؤوليتها في تقديم الخدمات إلى المجتمع وحماية أمنه، والاحتكار العائلي للحكم، وتوريثه عبر سيطرة عائلة الرئيس على الجيش والأمن والمال العام والتجارة الحكومية والخاصة. إن الدعوة إلى الانفصال والمقاومة بالحرب ليست مجرد رفض لشرعية السلطة القائمة، بل هي مسعى إلى مواجهة احتكار السلطة والثروة بفعل القوة وعنف الدولة، بقوة مقابلة لإحلال شرعية جديدة محل شرعية السلطة القائمة على الغلبة، ولكن في نطاق جغرافي أو مذهبي، مما يجعل الكيان الوطني أمام خطر التفكك.
إن أحزاب المعارضة ما زالت الأمل في إبقاء الصراع في إطار لا يهدد وجود الدولة نفسها، ويحقق حماية وحدة الكيان الوطني بالتغيير وانتقال السلطة سلمياً. وهذه الأحزاب لم تعد تجد شريكاً في السلطة لتحقيق هذه المهمة، ومنذ الاتفاق بين الحزب الحاكم ـــــ المؤتمر الشعبي العام ـــــ وأحزاب اللقاء المشترك في 23 شباط/ فبراير2009 على تأجيل الانتخابات لعامين (من أجل تهيئة الأجواء السياسية، وتطوير النظام السياسي، وإصلاح النظام الانتخابي، والتوافق على الإدارة الانتخابية)، لم تعد من شرعية للحزب الحاكم وحكومته بالنسبة إلى أحزاب المعارضة وللعملية السياسية وإدارة البلاد إلا عبر تنفيذ هذا الاتفاق بشراكة الطرفين. لكن هذه الشرعية في طريقها إلى السقوط التام، في حال وصول موعد الانتخابات دون تنفيذ ما جرى الاتفاق عليه. وهو ما يعني فقدان السلطة لشرعيتها بنظر كل الأطراف، وهي حالة تحدّ جديد يمثل خطراً عظيماً على وحدة الكيان الوطني.
إن اليمن هو البلد الأفقر بين الدول العربية، إذ صار أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر. وترجع حالة البؤس هذه ليس إلى الفقر في الثروات، بل إلى فشل الدولة وتسيّد الفساد وانعدام العدالة والمساواة وعدم توجيه التنمية لمصلحة الفئات الأكثر فقراً، بل واتخاذ سياسات لإفقار كل المجتمع عدا الخمس الأغنى أو ما هو أقل منه. والأخطر والأفدح أن البلاد تسير نحو فقدان مقومات الحياة، إذ إن اليمن من أكثر بلدان العالم معاناةً من ندرة المياه، ومدنه الرئيسية تفتقدها تماماً، وستكون صنعاء أول عاصمة في العالم بدون ماء! ولا توجد تدابير لمواجهة هذه الكارثة، أمّا الاقتصاد اليمني، فيعتمد على النفط، لكن هذا ينفد. والأزمة الاقتصادية لا تحتمل التأجيل، وعدم مواجهتها بحلول سريعة سيقود حتماً إلى العنف فوق ما هو عليه الحال.
لقد أدّت التنظيمات الإرهابية دوراً حاسماً في الحرب الأهلية عام 1994 ضد الحزب الاشتراكي في الجنوب، وكان قوامها في الحرب يقدّر بحوالى (60) ألف مقاتل. وبعد الحرب اختلطت هذه التنظيمات بالسلطة وأجهزتها، بما في ذلك الجيش والأمن، واعتقدت بأنها قد نجحت في إقامة الإمارة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، لكنها وقعت تحت سيطرة السلطة. واليوم تستعيد تلك التنظيمات هذا الحلم بفعل حالة الضعف، التي وصلت إليها السلطة. وهي تستغل غياب وجود السلطة على الأرض وضعف تغلغلها في المجتمع. وتعمل هذه التنظيمات من خلال الحراك الجنوبي، وحرب صعدة، ومعاناة الفقراء، والفراغ الأمني في المناطق المختلفة.
إن وجود القوات المسلحة السعودية، وقيامها بعمليات حربية داخل الأراضي اليمنية، وسيطرتها على المياه الإقليمية لليمن، وقبول الحكومة اليمنية ذلك، أمر يزيد الأزمة اليمنية استفحالاً، ويطيل أمد الحرب في صعدة. وهذا سيقود إلى نشوب حروب أخرى، ويجعل دول الإقليم مثل السعودية طرفاً في الصراع، ويفقد هذه الدول القدرة على مساعدة اليمن للخروج من هذه الأزمة، ومنع تحقّق خطر الانهيار، وتفكك الكيان الوطني، إذ إن الأمل الوحيد الباقي لإنقاذ اليمن ومنع تحقق الانهيار وتفكّك الكيان الوطني، هو قبول أطراف الصراع في اليمن الانخراط في مشروع الإنقاذ الوطني لأحزاب اللقاء المشترك وحلفائهم في إطار اللجنة التحضيرية للحوار الوطني. وسوى ذلك خراب البلاد والعباد، ونتائج إقليمية لا يدري أحد مداها.
* محامٍ وعضو في اللقاء المشترك وفي اللجنة التحضيرية للحوار الوطني