عصام العريان * يلفت الانتباه في قصة رغبة الرئيس الفلسطيني محمود عباس في عدم ترشحه لرئاسة السلطة الفلسطينية عدة أمور:
أولاً: أن هناك تنسيقاً واضحاً مع الإدارة الأميركية التي سارعت، عبر المتحدّث باسم البيت الأبيض ثم وزيرة الخارجية نفسها، إلى إبداء تفهّمها لموقف عباس، ثم التصريح بأن الحديث الأخير بينهما في أبو ظبي تناول مستقبل الرئيس السياسي بما يعني أن هناك ترتيبات لدور ما ومستقبل سياسي لمحمود عباس. فما هو؟
ثانياً: أن هناك صفة جديدة مرتّبة للسيد عباس سيقوم عبرها بدور ما في الحياة السياسية الفلسطينية. وهنا أعلن عباس نفسه أنه سيقوم بإجراءات أخرى في حينه ولم يفصح عنها حتى الآن.
ثالثاً: أنه كان رقيقاً جداً تجاه الإدارة الأميركية، فوصف موقفها المنحاز ضد الشعب الفلسطيني والمؤيّد دوماً للعدو الصهيوني والمتراجع أمام تصلّب حكومة اليمين العنصرية الاستيطانية بمجرد «محاباة».
رابعاً: أنّه استمرّ في مهاجمة حماس واتهامها بأنها تعرقل المصالحة الفلسطينية دون إلقاء أي لوم على أميركا والعدو الصهيوني والأوروبيين والرباعية الدولية التي وضعت جميعها شروطاً للمصالحة يستحيل على حماس وحركات المقاومة الالتزام بها.
خامساً: أنه مصمّم، رغم إعلان رغبته في عدم الترشح، على إتمام الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في موعدها، رغم أنها من الصعوبة بمكان في ظل عدم إتمام المصالحة، وإذا حصلت في الضفة الغربية فستكرّس الانقسام الحاصل الآن جغرافياً وسياسياً.
سادساً: أنه متمسّك بالنهج الذي اتبعه منذ أوسلو، ولم يعترف بفشل هذا النهج، لا أمام حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية ولا أمام الشعب الفلسطيني، وما زال يروّج لحل الدولتين رغم كل ما دفعه إلى الانسحاب، ووصفه في حديثه لعقبات في طريق إقامة تلك الدولة. وهذه يستحيل على العدو الصهيوني القبول بها، كما يصعب على أميركا، بإداراتها المختلفة، الضغط على العدو لعوامل كثيرة، أهمها تحالفهما الاستراتيجي. وكذلك لا دور مرتقباً لأوروبا كما أعلن عباس نفسه، وهناك أخيراً التراجع العربي المزري. وعباس يصمّ أذنيه عن دعوة ممثلي الفصائل الفلسطينية له لإعلان فشل أوسلو، مع ما يعنيه ذلك من نتائج مهمة، مثل حل السلطة الفلسطينية الوهمية، والعودة إلى تبنّي خيار المقاومة بكل وسائلها، شعبية وسياسية وعسكرية، وحشد طاقات العرب جميعاً خلفها، وسحب المبادرة العربية والعودة إلى سياسات اللاسلم واللاحرب، بما تعنيه من مقاطعة شاملة للعدو الصهيوني.
كذلك يلفت الانتباه أيضاً أن عباس يبدو كأنه فاجأ القادة العرب بما فعله، بينما لم يفاجئ الصهاينة الذين سرّبوا هذا الخبر في صحيفة هآرتس، وسط اضطراب عربي واضح تجاه تجميد الاستيطان: استدعت هيلاري كلينتون وزراء خارجية الحظيرة إلى لقاء عاجل في الرباط بالمغرب، لتعلمهم بالتطورات الجديدة، وظهر أبو الغيط مرتبكاً أثناء زيارتها لمصر للقاء الرئيس مبارك، لإعلامه بما تنويه الإدارة الأميركية، (مجرد إحاطة وعلم وخبر دون تشاور مسبق)، ثم تراجع أبو الغيط عن تصريحاته بشأن الاستيطان، بعد أن كان قد أعلن توافقه مع عدم وضع شروط مسبقة للبدء بالمفاوضات بين العدو والفلسطينيين، وفي الوقت نفسه، تعزز غياب الدور السعودي الذي لم يصدر عن مسؤوليه أي تصريحات، بينما أبدى الأردن مجرد انزعاجه.
أمام الأفق المغلق، اختار عباس الانسحاب بينما اختار عرفات الاستشهاد والموت كبطل
حدث هذا كله بينما يتصاعد الدور التركي رسمياً وشعبياً ضد السياسات الصهيونية، ما يمهد لدور ما في المستقبل الذي باتت تركيا تشارك في صنعه الآن في المنطقة كلها، من باكستان إلى إيران إلى أرمينيا وآذربيجان إلى سوريا وفلسطين، بسبب الغياب العربي المذهل والعجز الفاضح عن القيام بأي دور. وفي الحسبان أن تركيا تعترف بالدولة الصهيونية، ولها معها علاقات استراتيجية اقتصادية وتسليحية وعسكرية متينة، لم تتأثر بعد رغم إلغاء المناورات الأخيرة. ولقادة الحزب الحاكم رؤية واضحة بشأن نقاط الاختراق المهمة في العملية السياسية، تدور حول بناء اقتصاد قوي وإقامة نظام ديموقراطي سليم، ما يحقق إمكانيات للسلم الأهلي والسلم الإقليمي، بعيداً عن الحروب الأهلية الداخلية أو الصراعات الإقليمية الدامية التي لا يمكن حسمها في ظل المعادلات الدولية. ونلاحظ هنا نداء خالد مشعل للقادة الأتراك بالذات لإنقاذ المسجد الأقصى والقدس، مذكّراً إياهم بتاريخهم الحديث.
رجل المرحلة الفلسطيني هو سلام فياض، مبعوث المؤسسات الدولية لمواجهة فساد السلطة الفلسطينية ومراوغتها وهروبها من استحقاقات الشروط المفروضة عليها، وهو يعلن منذ فترة إقامة الدولة الفلسطينية بعد سنتين، ويقول إنه يبني مؤسسات تلك الدولة، وبيده الآن ـــــ بعيداً عن عباس والسلطة والفصائل ـــــ أهم ملفين: الأمن والمال. ويبدو عباس إلى جواره مهمّشاً بسبب انسداد الأفق السياسي تماماً وانهيار المفاوضات التي يمسك هو بزمامها إلى أن أفلت منه الزمام. يواجه فياض من فتح مروان البرغوثي، القائد الأسير لدى سلطات الاحتلال، الذي لا يبدو في الأفق أنه سيخرج لقيادة حركة فتح أو المنظمة.
هنا تبدو ملامح المرحلة القادمة:
1ـــــ لا دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة تتمتع بالسيادة على أرضها وجوّها وبحرها وتتمتع بمواردها المائية، ولا عودة للاجئين ولا للقدس كعاصمة. وهذا ما أصبح واضحاً في حديث عباس وعريقات.
2ـــــ تكريس الانقسام الفلسطيني الحالي بين الضفة وغزة، وإلقاء عبء غزة على مصر للتعامل معه وفق أجندتها الخاصة، وبما يحقق أمنها القومي وأمن العدو، مع تحسين شروط الحصار المفروض إلى حين. وهنا نلاحظ أن حجاج غزة بدأوا بالسفر على خلاف موسم الحج الماضي.
3ـــــ إقامة كيان هزيل أشبه بالحكم المحلي في الضفة الغربية، في ظل سيطرة العدو على الملف الأمني تماماً واستمرار القبضة الأمنية للجنرال دايتون وفريقه الفلسطيني، ومطاردة المقاومة وكبح جماح كل الحركات الشعبية السلمية، مع وعود بازدهار اقتصادي على أمل أن ينسى الفلسطينيون في الضفة فكرة المقاومة تماماً.
4ـــــ انتهاء دور منظمة التحرير الفلسطينية وتهميش كامل لكل الفصائل الفلسطينية المنضوية تحت المنظمة، وحصار شديد لحركتي حماس والجهاد في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو إبقاء المنظمة بلا قيادة فاعلة أو فرض قيادة مرضي عنها، مثل دحلان، على الجميع إذا أرادوا بقاء المنظمة والبحث عن دور فيها.
الجدير بالذكر أن عباس، أمام هذا الأفق المغلق، اختار الانسحاب، بينما اختار عرفات الاستشهاد والموت كبطل. لأن الفرق بين الرجلين كبير، ولأن عرفات اضطر اضطراراً إلى أوسلو، بينما كانت هي خيار عباس، وهو ما زال مقتنعاً بها حتى النهاية، رغم كل الفشل الذي سبّبه تعنُّت الصهاينة وتصلُّبهم وانحياز أميركي ـــــ أوروبي ودولي لهم على حساب الحقوق العربية، وعجز عربي بل وخيانة عربية رسمية لقضية فلسطين، قضيتهم الأولى لمئة عام.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين بمصر