حسان الزينيتقن وليد جنبلاط صناعة الرأي العام ودفعه في الاتجاه الذي يريد، وتسييجه في المساحات وتحت العناوين التي يشاء وتناسبه. وآخر إنجازاته في هذا الإطار ما بتّه لتبرير خروجه من تحالف 14 آذار وابتعاده منه. فقد صوّب مباشرةً على أهداف هذا التحالف: المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري. واستند في رأيه هذا إلى ما تحقّق في البندين المذكورين.
هنا، ثمة ما هو ملموس. ما يستطيع من خلاله الوقوف في موقع الناطق بالبديهة، إذ لا أحد يمكنه ادعاء أن الجيش السوري لم ينسحب، بمعزل عن الوجود السوري الآخر، السياسي والاستخباري خصوصاً. كذلك الأمر بالنسبة إلى المحكمة الدولية، التي باتت، كما يقول، شأناً خارجياً وتقنياً. وإذا كان جنبلاط من خلال هذه التمريرة قد حقّق هدفاً في مرمى 14 آذار بخروجه من فريقها، فإن هدفه الأهم هو إبعاد الكرة من الجزء السوري في الملعب اللبناني. وتالياً، الشروع في جزّ العشب عن طريق المختارة دمشق. وهذا، في حد ذاته، مكسب سوري، وفي الوقت عينه هو الاتجاه المرحلي في الاستدارة الجنبلاطية.
لكن، بالرغم من نباهة هذه الحركة «الرياضية» وبراعتها التنفيذية، فإن جنبلاط، في ما يخص 14 آذار، قال جزءاً من الحقيقة، أو المشهد، فشعارات 14 آذار ليست هذين العنوانين وحسب. وهذه الثورة التي احتاجت، في أول أيامها، إلى ثورة بحسب شهيدها الكاتب سمير قصير، كانت «مشروعاً» للبنان، مختلفاً عن المشروع الآخر «السوري الإيراني»، بحسب قاموس 14 آذار، الذي بدأ يتكوّن قبل 14 آذار و14 شباط. وإن كان هذا التحالف العريض لم يقارب الدولة إلّا في الذكرى الرابعة لانطلاقته، ومع ذلك لم يقترح مشروعاً في صددها.
لا يمكن إنكار أن تحالف قوى 14 آذار يعاني أزمات بنيوية تفتحه على الاحتمالات كلها، ومنها التفكّك والتقلّص، إذ تعرّض لضربات كثيرة، ليس أقواها الاغتيال أو خروج وليد جنبلاط أو اكتفاء سعد الحريري بدور معايد المريض في اللحظات الحرجة وحسب، ولا حتى انهيار الجدار البرليني لهذا التحالف في أيار 2008 في بيروت وجبل لبنان الجنوبي. الضربة الأساسية التي تلقّاها هذا التحالف من نفسه، من مولّديه ومكوّناته حين لم يبذلوا الجهد ليقدّموا مشروعاً للدولة. وكان هذا مطلوباً من غالبية اللبنانيين، إلّا أن طبيعة القوى المكوّنة واختلافاتها غلبتا، ما أبعد مشروع الدولة لحساب مشروع عودة «الانعزال المسيحي» (بلغة جنبلاط) إلى السلطة، ولحساب مشروع حفاظ الحريرية على المكتسبات التي حقّقتها في ظل الوصاية السورية بالتوافق السعودي والرعاية الأميركية، ولحساب مشروع بحث «الخصوصية الدرزية» عن طمأنينة محلية وإقليمية.
اليوم، ولا سيما بعد الانتخابات النيابية وإعادة الاستراتيجية الحريرية بناء وضعيتها في النظامين اللبناني والإقليمي، يبدو تحالف 14 آذار مهجوراً. كأنه تحوّل عبئاً، لا على جنبلاط بل على الحريري، الذي يلتزم الصمت تجاه هذا التحالف، مشغولاً بترتيب بيته المستقبلي والحكومي. فالحريري أيضاً تغيّرت أولوياته تجاه 14 آذار، إلّا أنه ما زال «بحاجة» إلى الحلفاء. ولعل في هذا ما يفسّر التنافس الكتائبي القواتي على أيديولوجية 14 آذار. فمن الأسباب الحالية لأزمة هذا التحالف سعي القوات إلى ملء الفراغات في أيديولوجية 14 آذار مع ترفّعها عن الموقع «القيادي» فيه لمصلحة الموقع في الأكثرية النيابية والوزارية، إلى جانب تيار المستقبل ورئيسه. ما يظهرها في موقع «القائد المسيحي» للتحالف الآذاري. وفي المقابل، الكتائب، الذي بقي رقماً محدوداً في الأكثرية النيابية، وبالكاد حصل على جائزة ترضية وزارية، يسعى إلى حفظ موقع ما في تحالف 14 آذار المهجور، الذي يبدو أنه بحاجة إلى تذكير نفسه والفريق الآخر واللبنانيين عموماً بشعاراته وبرنامجه السياسي.
لقد أدى تحالف 14 آذار دوره، ليس تجاه شعاراته واللبنانيين ولبنان، بل تجاه الحريريه العاجزة حالياً عن مكافأة الحلفاء أو ترميم التحالف العريض. فهذا التحالف مثل التحالفات اللبنانية العريضة الأخرى اضمحلّ وفقد الدور مع انتهاء صلاحيته بالنسبة إلى قائده، وقبل تحقيقه شعاراته الجامعة.
هذا ما أدركه ميشال عون ووليد جنبلاط باكراً. فاختار الأول الابتعاد لعدم توافر المصلحة فيه، فيما آثر الثاني البقاء وأحسن استخدامه على أكمل وجه. وحتى في اللحظة الأخيرة له فيه تراه يقدّم خدمة إلى سعد الحريري في التحرر بصمت من التحالف. لقد جعل وليد جنبلاط 14 آذار لحظة حريرية بامتياز، كما في البداية كذلك في النهاية.
لقد أثبت تحالف 14 آذار أن الاستجابة للّحظة الدولية والإقليمية ثم محاولة الترجمة محلياً لا تصنع تحالفاً يحقّق أهدافاً وطنية، وخصوصاً إذا لم تكن تلك الاستجابة تجمع القوى المتحالفة عناوين تحت «وطنية» واجتماعية، بل مصالح زعاماتية مذهبية تطلق الشعارات الكبيرة ولا تبذل جهداً، ولو كلامياً وورقياً، لإنتاج مشروع يفسر تلك الشعارات. مشكلة 14 آذار أنه بقي، منذ اللحظة الأولى، تحالف قوى أكثر منه مشروعاً.
فهذا التحالف بات اليوم، كما قيل سابقاً بالحركة الوطنية، سيارة تدهورت وما زال الراديو فيها يصدر أصواتاً. وعلى الرغم من ذلك، ما زالت الشعارات التي استعملها التحالف تنتظر من يملأها مشروعاً وحراكاً لا يتبدّدان بخروج زعيم، وصمت آخر ووقوف آخرين على الأطلال.