عبد العلي حامي الدين *يوم 12 آب/ أغسطس 1961، أعطى رئيس ألمانيا الشرقية “فالتر أولبريشت” إشارة البدء ببناء الجدار الفاصل بين برلين الشرقية وبرلين الغربية، وذلك بعدما بلغت نسبة الفارين من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية 3 ملايين وخمسمئة ألف شخص، منذ قرار إغلاق الحدود بين برلين الشرقية وبرلين الغربية الذي اتخذه الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية.
وعندما انتُخب هيلموت كول مستشاراً لألمانيا الموحدة في آب/ أغسطس 1990، وأُعلنت برلين عاصمة لها، ساد الاعتقاد بانطلاق مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية، وبروز ملامح نظام دولي جديد، وخصوصاً مع إنشاء المجموعة الأوروبية، التي تطوّرت إلى اتحاد أوروبي يضم 27 دولة، تاركةً وراءها تاريخاً حافلاً بالخلافات والحروب. عشرون سنة على سقوط الجدار الذي لم يكن يفصل ألمانيا فحسب، بل كان يقسم العالم إلى قطبين متصارعين. وبسقوطه ودّع العالم أكثر من أربعين سنة من الحرب الباردة، عدّت الولايات المتحدة الأميركية نفسها منتصرة فيها، لكن روسيا لم تخرج منها منهزمة، وما زالت تمثّل لاعباً أساسياً في الساحة الدولية.
36% من الألمان الغربيّين والشرقيّين يرغبون في إعادة جدار برلين
لكن الأحلام التي انطلقت بعد سقوط الجدار لم تتحقق بالكامل. فالوحدة الألمانية لم تكتمل، نظراً إلى استمرار الفروق في الأوضاع الاقتصادية بين شرق ألمانيا وغربها، واستمرار الانقسام في الذاكرة الجمعية بين الشرقيين والغربيين، ليس في ألمانيا وحدها، بل على صعيد مواطني القارة الأوروبية ككل. وفي الوقت الذي كان فيه مواطنو أوروبا الشرقية يمنّون أنفسهم برفع مستوى عيشهم لمجاراة “أشقائهم” الغربيين، أثبتت التجربة صعوبة التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية، مما دفع بالبعض إلى الحنين إلى الزمن الشيوعي، وهو ما يفسر صعود اليسار الاشتراكي في أكثر من دولة أوروبية. ولم تتطور العلاقات بين روسيا وأوروبا رغم سقوط حلف وارسو، بل بالعكس وجّه الحلف الأطلسي صواريخه اتجاه روسيا! وفي الوقت الذي ساد فيه الاعتقاد بتراجع أسباب النزاعات مع انهيار الثنائية القطبية وتراجع التقاطب الإيديولوجي، اندلعت حروب ذات طبيعة جديدة، أكدت توقعات البعض بانفجار نزاعات عنيفة ذات طبيعة حضارية (الحرب في البوسنة والهرسك، الحرب على العراق وأفغانستان، استمرار النزاع العربي الإسرائيلي...). ورغم بروز مؤشرات واضحة على تزايد التنافس من أجل بناء تكتلات أممية متعددة والتزاحم على القوة والنفوذ في العالم، مثل صعود الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا والهند والولايات المتحدة واليابان وغيرها، فإن انبثاق عالم متعدد الأقطاب ما زال في طور التكوّن ولم تتضح معالمه بعد، لكن من المؤكد أن سياسة القطب الأميركي الواحد في طريقها إلى الانتهاء. فالولايات المتحدة الأميركية تشهد تراجعاً نسبياً في الكثير من القطاعات، لكنها مع ذلك تظل الدولة الأكثر تأثيراً في السياسة الدولية، وستتّضح الصورة أكثر في العقود القليلة القادمة. وسقوط جدار برلين كان يحمل معه رمزية سقوط مظاهر الكراهية تجاه الآخر، وازدياد منسوب التعايش والتنوع الحضاري، ليس فقط بين سكان أوروبا ولكن مع سكان باقي القارات. اليوم ازدادت قوانين الهجرة تشدداً، وأصبح الهاجس الأمني هو المحدّد الأول في السياسة الأوروبية تجاه العالمين العربي والإسلامي وتحديداً تجاه الدول المغاربية. لكن هذه السياسة ليست مستغرَبة ما دامت دراسات مسحية جديدة تشير إلى أن 36% من الألمان الغربيّين والشرقيّين يرغبون في إعادة جدار برلين بعد 15 عاماً من سقوطه، بينما أعرب 24% من الألمان الغربيين عن رغبتهم في إعادة الجدار، كما أجاب 11% من الغربيين و8% من الشرقيين بـ“نعم” عندما سئلوا عن “هل من الأفضل أن يظل الجدار بين الشرق والغرب قائماً؟”، كما أيّد 47% من الألمان الشرقيين مقولة إن الغربيين “حصلوا على الشرق كمستعمرة”!! وتؤكد نتائج الدراسة التي أجرتها جامعة برلين على ألفي ألماني، وجود حساسيات مفرطة بشأن التكاليف الباهظة التي ترتبت على الوحدة الألمانية، مما تسبّب في هبوط مستوى معيشة الألمان الغربيين، وفي اضطرابات اقتصادية بالنسبة إلى الشرقيين. لقد سقط جدار برلين رغم حجم العداء الإيديولوجي والسياسي الذي ظل قائماً مند عدة عقود بين المعسكرين، ليؤكد أن قرارات السياسيين لا يمكن أن تتجاوز حقائق التاريخ والجغرافيا. ومع ذلك، فإن سياسة بناء الجدران العازلة ما زالت مستمرة، وها هي “إسرائيل” مستمرة في بناء الجدار العازل في الضفة الغربية لمنع دخول الفلسطينيين وعرقلة حركتهم، إضافةً إلى ضم أراضٍ جديدة من الضفة إليها.
ورغم إصدار محكمة العدل الدولية رأياً استشارياً يوم 9 تموز/ يوليو 2004 يقضي بعدم شرعية جدار الفصل، فإن العدو الإسرائيلي ماض في مخططه التوسعي والعنصري، في تجاوز لحقائق الجغرافيا ولحقائق التاريخ القريب.
* باحث وعضو المجلس الوطني
لحزب العدالة والتنمية المغربي