محمد بنعزيز *اعتقلت السلطات المغربية سبعة نشطاء من انفصاليي الداخل، لأنهم قاموا بزيارة انفصاليي الخارج. ونشرت الصحف صوراً سرّبتها الاستخبارات للنشطاء يُستقبلون بحرارة من طرف قادة البوليساريو، المقيمين في مخيمات تندوف على التراب الجزائري. والهدف من الزيارة هو زيادة الاحتجاجات في مدن الصحراء، لأن الهدوء ومرور الزمن يعملان لمصلحة المغرب. وقد وجهت النيابة العامة للنشطاء تهمة التخابر مع العدو، بينما تولت الاستخبارات العسكرية التحقيق في الأمر.
منذ وقف إطلاق النار في 1991، تُتابع الحرب بوسائل سياسية. الوضع هنا يجعل نظرية الجنرال كلاوفيتز، الذي قتله الوباء لا الحرب، مقلوبة. فالسياسة هي متابعة الحرب بوسائل أخرى، وقد سهلت التكنولوجيا التحريض السياسي وجعلت الجدار العازل بلا وظيفة.
النتيجة: صدامات مع رجال الأمن، اعتصامات للطلبة الصحراويين في الجامعات، تعبئة مستمرة في مدن الجنوب المغربي، صراع على كسب الرأي العام والدوائر الدبلوماسية. وطبعاً سباق التسلح المرير بين المغرب والجزائر اللذين يحتلان مراتب مخجلة في سلّم التنمية البشرية. الحدود مغلقة مع استمرار ملك المغرب ورئيس الجزائر في تبادل برقيات مثل «أصدق التهاني وأجمل التمنيات بموفور الصحة وسابغ السعادة والهناء». ومع الحب في البرقيات هذا، تدور حرب إعلامية طاحنة تربي الأجيال الصاعدة على وباء الكراهية المتبادلة بين البلدين، وهذا سيضمن دوام سباق التسلح، فالجنرالات لا يفكرون في الشعوب كما يقول برتولد بريخت في إحدى مسرحياته، لأنهم واثقون بأن السلام يجلب البلبلة وأن الحرب تنتج النظام.
بالتزامن مع حرب الاستنزاف المتبادل، انتُخب في الرباط رئيس مجلس المستشارين الشيخ محمد بيد الله، وهو بذلك يحتل المرتبة الرابعة في الدولة، بعد الملك والوزير الأول ورئيس مجلس النواب. ينحدر الرجل الرابع في المملكة المغربية من مدينة السمارة، مدينة صحراوية على الحدود مع الجزائر ينشط فيها الانفصاليون بكثافة وحدّة. وقد صار ابنها رئيساً لمجلس المستشارين، وهو واحد من مؤسسي جبهة البوليساريو. وهكذا غطى خبر الانتخاب على خبر الاعتقال.
في المغرب كل قطع غيار نظام ديموقراطي: هناك دستور وأحزاب وجمعيات وإعلام مستقل، ما ينقص هو منطق يسمح بتركيب قطع الغيار
كانت الانتخابات شفافة، أي لا أحد اشتكى من التزوير، غير أن البيئة المحيطة بالصندوق الزجاجي لم تكن شفافة، لأن الرئيس المنتخب ينتمي إلى الأقلية، ومع ذلك صوت عليه مستشارون من الأغلبية، وذكرت وكالة الأنباء الرسمية «فاز الشيخ بيد الله على منافسه». جملة ذات وقع غريب. لماذا؟ لأن صحفاً كثيرة نشرت أن هذا المنافس، تقصى قبل أن يترشح إن كانت هناك تعليمات لدعم خصمه، لو كانت هناك تعليمات لكان قام بالحملة ضد نفسه، وهذا هو الدرس الديموقراطي الذي يعرضه هذا المقال.
ينتمي هذا المنافس لحزب «الأحرار»، وهو مشارك في الحكومة، وقد خسر لأن الأغلبية اختارت زعيم المعارضة رئيساً. للإشارة، الرئيس المنتخب هو الأمين العام لحزب «الأصالة والمعاصرة» الذي أسسه صديق الملك منذ أشهر عدة وأصبح حزباً عملاقاً، حزب في المعارضة، وله وزير في الحكومة يتولى قطاع التعليم، أكبر قطاع يزود الأحزاب بمناضليها وانتهازييها.
هل فهمتم؟
سأتابع التوصيف، معاً سنفهم الأجزاء دون أن يظهر لنا الكل: في المغرب ديموقراطية كراكيز. من حسن حظ المغرب أن كراكيزه يُتحكم فيها داخلياً، لذا فوضعه أفضل من دول يُتحكم في كراكيزها من الخارج. مع التحكم، تجب السيطرة على انفعالات الخاسرين من البيئة غير الشفافة. إنهم يغضبون، ولكن غضبهم عابر، لأن تلك البيئة قد خدمتهم سابقاً، وهم مدينون لها، فكيف يحتجون عليها الآن؟
لا بأس من تفريغ الغضب، ولكن هناك آليات مراقبة داخلية، تضمن ثبات الوضع. لذا فحين غضب زعيم حزب «الأحرار» لأن الأغلبية تخلت عنه ولم تدعم مرشحه فهدد بمغادرة الحكومة، خرج له أحد وزراء حزبه، وزير يتولى حقيبة المالية وأعلن عن إقامة حركة تصحيحية تطالب برأس زعيم الحزب. والتصحيح الذي يطلبه هو السكوت على ما جرى، وبالتالي فهو قائد حركة تبريرية لا تصحيحية، لكي يبقى وزيراً.
يجري هذا الاقتتال الداخلي في حلبة معزولة، في بيئة اصطناعية، أي ليس لها امتدادات سياسية، فبرلمانيو الحزب يتفرجون على مناورات الحركة التكتيتكية، لا يساندون أحداً لأنهم يعرفون أن الصراع يجري ليس بهدف إنجاز التغيير بل للمحافظة على الوضع القائم. لكي يحافظ زعيم حزب الأحرار على منصبه سيبلع لسانه، فتكون المكافأة هي بقاؤه في موقعه. وهكذا سيستفيد ثانية من البيئة غير الشفافة.
هذا هو الدرس:
في المغرب كل قطع غيار نظام ديموقراطي، هناك شعب ودستور وأحزاب وجمعيات وإعلام مستقل. ما ينقص هو معنى ومنطق يسمح بتركيب قطع الغيار لتصبح عربة تسير وفق قواعد تمكن السائق والشعب من توقع ممارسات الآلة. دون هذا الخيط سيستمر العبث.
هناك تنافس حزبي على الكراسي لا على السلطة، تنافس لا يفرز غالباً ومغلوباً، تنافس متفق على سقفه بهدف الاستغناء عن التزوير. كثرة الأحزاب لا تعني تعددية حقيقية، بل تعددية استبدادية، تحت المراقبة، كما وصفها الباحث الفرنسي جون كلود سانتوشي، الذي وضع الأحزاب السياسية المغربية تحت المجهر وخلص إلى أن النظام المغربي استثنائي. يبدو أنه هو الآخر لم يفهم، لأنه يحلل التسلط بلغة القانون، لا بلغة الغابة.
لنرَ التتمة:
الأغلبية تصوّت ضد نفسها وتختار معارضاً لها، فوضى خلاقة قادت إلى نتيجة مدهشة: يمكن صحراوياً كان انفصالياً ليس فقط أن يندمج، بل أن يصل إلى قمة هرم المناصب. وسيحصل على نهاية سعيدة حين سيفاوض رفاقه السابقين على الحكم الذاتي في الصحراء. بغض النظر عن عسر الإخراج، فإن ممثلي الأمة قد ركبوا نهاية واضحة للفيلم: فها هو صديق الملك ورجله الشاب يتحرك من موقع مريح، فهو قيادي معارض للحكومة، أي يتموقع بين خصومه لا في مواجهتهم، وهذا يربكهم. رجل الملك الراحل كان وزيراً للداخلية، كان خصماً وحكماً. موقع رجل الملك الحالي يسهل عليه المناورة والتصريح والظهور والاختفاء وفق تكتيك يلائمه، وقد أعلن رفض ترشيح المشبوهين بتجارة المخدرات، لأنهم يستخدمون الأموال لشراء الناخبين، وقد تفضل قيادي اشتراكي وقدر عدد تجار الحشيش في المؤسسة التشريعية بالثلث. ومما له دلالة، أن حزب العدالة والتنمية الإسلامي، الذي حصل على الرتبة الأولى بعدد الأصوات لا المقاعد في آخر انتخابات مجلس النواب 2007، ليس له ممثلون في مجلس المستشارين.
الخلاصة، مرت كل هذه الألاعيب ليظهر معمار المشهد عارياً: لقد دفع صديق الملك برجاله إلى الواجهة وتوارى بمهارة، مما يثبت أن السلطة تتدبر أمورها جيداً. وإذا سلّطنا الضوء على المشهد من المحيط إلى الخليج، يتضح أن الأنظمة العربية قد استعادت المبادرة ضد شعوبها، وقد ضعفت الأصوات المعارضة حتى اختفت، وصار الصوت المسموع هو المعارضة الناتجة من تقاسم مسبق للأدوار: الأب يحكم والابن أو الأخ أو الصديق يعارضه ضمن العائلة. غير أن هذه الديموقراطية المخترعة التي تتزين بهيئة تشريعية مستعارة، تنكشف بشعة، فخلل مجلس المستشارين يتجاوز المعنى إلى المبنى، فقد وقعت عارضة خشبية من سقف المبنى وكادت تصيب رأس أجمل وأصغر وزيرة في الحكومة. نجت الوزيرة، لكن الشعب تلقى ضربة الديموقراطية الخشبية.

* صحافي مغربي