سعد الله مزرعاني *يمكن القول، بشيء من التبسيط، إنّ تأليف «حكومة الوفاق الوطني» على النحو الذي صدرت فيه مراسيم تأليفها، يدشّن، أو حتى يكرّس، مرحلة جديدة في السياسة اللبنانية. العامل الرئيسي في رسم ملامح هذه المرحلة كان التعثّر والفشل الأميركي في العراق. نتائج هذين الفشل والتعثّر شديدة التأثير على الوضع اللبناني، بسبب أنّ لبنان قد كان الساحة الثانية بعد العراق، لتجسيد فعل مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الأميركي ونتائجه. وهو شهد لهذا السبب معارك متنوّعة كانت أبرزها وأخطرها «حرب تموز» الإسرائيلية ــــ الأميركية على لبنان وشعبه ومقاومته عام 2006.
لقد بدأت ملامح ظهور التكتلات السياسية اللبنانية وبلورتها في عمليات فرز وضمّ وخلط أوراق، منذ أواسط عام 2003، وخصوصاً في عام 2004. تحوّلات وصراعات عام 2005 الدراماتيكية، كانت تكريساً وتصعيداً وثمرة لما سبقها. ويصبح من الطبيعي بعد تراجع دور العامل الأميركي، الذي كان الأكثر تأثيراً في صياغة كلّ أوضاع المنطقة وسياساتها، ومنها لبنان، أن تتغيّر لوحة التكتلات والتحالفات في هذا الموقع أو ذاك، تبعاً لمحصّلة صراع السنوات الخمس الماضية وللتوازنات التي انتهت إليها.
السعودية وسوريا كانتا الأكثر انخراطاً في الصراع، والأكثر تأثّراً به، إلى جانب عدد قليل آخر من الدول العربية والإقليمية. محصّلة السعودية سلبية بسبب مشاركتها في المشروع الأميركي واندفاعتها في المراهنة عليه. هي الآن في مرحلة مراجعة تتسم عموماً بمحاولة «حصر الخسائر». وهي لذلك، وبين أمور أخرى، تعيد وصل ما انقطع (في مرحلة التوتر والصراعات والمواقف الحادة) من علاقات عربية وإقليمية. أما القيادة السورية، فعلى العكس من ذلك، تمارس الآن عملية «جني أرباح». إنّها عملية تسير فيها سوريا بتؤدة، محاولة أيضاً، الجمع ما بين الاحتفاظ بأوراقها القائمة ومحاولة استرجاع (جزئية أو كلية) لبعض أوراقها السابقة.
لبنان هو أيضاً، ومجدّداً، وبسبب الفراغ المتفاقم والمتصاعد الذي يضرب حياته السياسية والوطنية، ساحة نموذجية لتكريس النتائج ولتجسيد التحوّلات. هذا ما يمكن رؤيته بوضوح في الصراع على تأليف الحكومة الجديدة، وفي النتائج التي أفضى إليها هذا التأليف. ولعلّ من أبرز ما يمكن تلمّسه تلمّساً واضحاً ونافراً حتى، هو انفراط عقد التكتلين الأساسيين اللذين وجّها الحياة السياسية طيلة السنوات الخمس الماضية، لمصلحة قيام «كتلة حكم» جديدة، قوامها، رئيسياً، أطراف «التحالف الرباعي» السابق («حزب الله»، حركة «أمل»، الحزب التقدّمي الاشتراكي، تيار «المستقبل»)، مضافاً إليها، إلى حدّ كبير، «التيار الوطني الحر» برئاسة العماد ميشال عون.
في مجرى الاصطفاف الجديد، سيُحيّد سلاح المقاومة وسيكون جبران باسيل صهر الجميع لا
العماد عون فحسب
معروف أنّ الكتلة المتوقعة هذه، والمنبثقة عن انفراط عقديْ كلّ من تكتلي 8 و14 آذار، تتمتّع فضلاً عن حجمها التمثيلي الكبير والحاسم في المجلس النيابي وعلى الصعيد الشعبي، بدعم سوري ــــ سعودي لا جدال فيه. ولذلك هي التي ستوجِّه، أو ستوجَّه من خلالها، السياسات اللبنانية الأساسية، في السنوات القليلة المقبلة على الأقل. يصوغ البعض معادلات بشأن المرحلة المقبلة، ترضي نوعاً ما غروره أو جمهوره، لكنّ الأساسي، سيكون بروز الدور السوري مجدّداً في لبنان قوة فعل وتأثير لا يساويه فيها أيّ طرف خارجي آخر، سواء كان عربيًّا أو إقليمياً أو دولياً.
لا يعني ما تقدّم أنّ الأمور استتبّت بين الأطراف الخمسة المذكورة، ولها، ولا هي باتت سهلة أمام الطرف السوري ليفعل ما شاء على النحو الذي كان قائماً في مرحلة الإدارة السورية للبلاد (التي انتهت في أواخر نيسان عام 2005). لكن يمكن القول بثقة كافية إنّ حالة من التعاون أو التناغم أو التواطؤ ستنشأ بين الأطراف المذكورة، ما يحوّلها القوة والقاعدة الأساسية للسلطة التي ستدير شؤون بلدنا ومؤسساته حتى إشعار آخر من المنطقة أو من خارجها!
هذا التقدير البسيط والجازم أيضاً، يؤدّي بداهة، إلى استنتاجات طبيعية أيضاً، لناحية سقوط ثنائية السلطة ــــ الموالاة والمعارضة السابقتين، ولجهة نوعية الصراعات والمتصارعين، رغم استمرار ما أشرنا إليه آنفاً من تباينات ومحاولات لتحسين المواقع والتوازنات لمصلحة هذا الطرف على حساب ذاك، أو بالعكس: محليًّا وعربيًّا وإقليميًّا...
في مجرى الاصطفاف الجديد الذي أملته التوازنات لا الرغبات، سيُحيّد سلاح المقاومة، وسيكون الوزير جبران باسيل صهر الجميع لا العماد عون فحسب!
المقصود بذلك أنّ الصراعات الحادّة ستتأجّل، وخصوصاً أنّ متطرّفي الحكومة الإسرائيلية سيكتفّلون ليس فقط بدفع رئيس السلطة الفلسطينية إلى التفكير بالانسحاب تعبيراً عن فشل الرهان على واشنطن، بل أيضاً بتخيير الرئيس باراك أوباما، ولم تمض سنة واحدة بعد على بدء ولايته، بين التراجع عن مشروعه بشأن الاستيطان والدولتين، أو حرمانه من تجديد ولايته أواخر عام 2012.
لاحظ الجميع في الأيام القليلة الماضية ارتفاع النبرة التصالحية من جانب الأطراف الخمسة المذكورة. لاحظوا أيضاً تراجع رئيس الجمهورية عن بعض ما كان قد طالب به من تعديل في صلاحيات الرئاسات الأولى والثانية والثالثة. لاحظوا كذلك استحضار عناوين اقتصادية واجتماعية وباريس 3 والخصخصة. ذلك يؤكّد ما ذهبنا إليه. فهذه العناوين لم تكن يوماً موضوع صراع بين الأطراف. إنها في الواقع، عناوين وإن كانت لا تخلو من التنافس (وهي مادة صراع أساسي في المحاصصة) لكنّها أيضاً، موضع تقاطع إلى حدّ صغير أو كبير في الكثير من الحالات.
ذلك يطرح استنتاجات جديدة بشأن الوضع اللبناني واصطفافاته وصراعاته كما أشرنا سابقاً. والاستنتاج الأوّل، هو المبادرة إلى بناء قوة وكتلة اعتراض وضغط سياسية وشعبية تستطيع أن تقدّم خياراً جديداً للبنانيين. الظرف الآن مناسب أكثر من السابق للعمل في هذا الاتجاه. ليس الأنسب أن نبدأ بإطلاق الشتائم ضدّ من اجتمع ومن تفرّق. المطلوب هو بناء عناصر مشروع يذكّر بقضايا الصراع ضدّ العدو ومستلزماته، وبحاجة لبنان إلى إصلاح نظامه لأنّها حاجة مصيرية وإنقاذية، وبأهمية معالجة الأزمة الاقتصادية لأنّها أصبحت هي الأخرى أزمة كبرى تهدّد بمضاعفات سياسية لا اجتماعية ومعيشية فحسب.
مسعيان يجب أن ينشطا (ويتكاملا) لهذا الغرض: مسعى لقيام كتلة سياسية واسعة من الذين اصطدموا بالنظام السياسي الطوائفي الراهن واتخذوا خطوات جدية في مجرى الابتعاد عنه والسعي لتغييره، وكذلك من الذين يواصلون سياسة الاعتراض على هذا النظام من موقع ديموقراطي ووطني وتغييري عموماً. أما المسعى الثاني فهو مسعى لإعادة بناء اليسار مشروعاً ذا برنامج وإطار مناسبين في ضوء التجربة والحاجة والمستجدات.
إنّها مهمة مزدوجة في خدمة هدف واحد: إنقاذ لبنان وإنجازات شعبه ممّا يتهدّدهما من انقسام وتشرذم وتقاسم وضياع.
* كاتب وسياسي لبناني