حسان الزينمصدر الوحي للسياسة والسياسيين في لبنان هو السياقة. لا كتاب ولا تاريخ ولا تجربة ولا من يحزنون. السياقة فقط. السياقة التي لن تتحسّن، ولن تتنظّم أو تتهذب مع طاقم سياسي من هذا النوع، وهو أمين لمبادئها ويؤمن بما تحققه. لن تتنظّم أو تتهذّب، لا لأن السياسيين يمارسون الفساد، سواء أكان فيها أم في المجالات الأخرى، بل لمَا يفعلونه في حياة الناس وفي ثقافتهم وفي البلد عموماً. إنهم يجعلون كل شيء سياقة.
فالسياسيون خير ممثّل للسياقة اللبنانيّة. السياسة هي نفسها قيادة السيارة على الطرقات. وكما سياستهم كذلك وصولهم إلى المواقع السياسية باتباع «قوانين» الغابة اللبنانية. يطاحشون. يزركون الآخرين. يسدّون الطريق أمام السيارات الأخرى. يستقتلون للفوز بالطريق. يطلقون الأبواق. يعتّمون الزجاج. يحشدون السيارات المرافقة لهم... إلخ. هذه سياستهم. هذه هي السياسة عندهم.
ليس هناك مصدر أقوى لسياسة السياسيين من قيادة السيارة والسير على طرقات لبنان. ويضيف السياسيّون إلى ثقافتهم ما يبدعه مرافقوهم. فثقافة المرافقة والسيارات الفخمة المموّهة كأنها آلة عسكرية فضائية تسجّل للسياسيين وأمراء الميليشيات، ولا فرق بين هذين. ومنهم يستفيد المواطنون، فيقلّدون. تبادل ثقافات. والسياقة والسياسة كالبيضة والدجاجة. من قبل من؟
أخذت الحرب إشارتها الخضراء من «بوسطة عين الرمانة»، ثم مرّ جيلها الأول من الأبطال على إشارات السير وعلاماته التي كانت متمركزة هي أيضاً في بيروت، فدُمّرت وانتُزعت في طقس بدائي تعبيراً عن التمرّد على السلطة ومؤسساتها. ومع دخول البلد عصر كانتونات الأمر الواقع والحواجز الثابتة والطيّارة، التي تزعم الأمن وتفرض الخوّة وتفحص الأخوّة، انطلق سباق اللبنانيين في الشوارع. الجميع في سباق. الجميع، في بلد المبادرة الفردية، في سباق مع الجميع. الجميع يريد أن يمر كأنه يفرّ من القصف أو من الخطر. الجميع يتصرّف، غريزيّاً، على قاعدة أن عليه شقَّ الطريق والفوز بالمتاح له، سواء أكان وسط غابة من السيارات أم في موقف للسيارات. وقد أبدع اللبنانيون في هذا المجال، في الاتجاهات كلها، وفي كل شبر يمكن أن تصل إليه السيارة، تقتحمه أو تتسلّقه أو تشقّه. وسُجّلت أرقام قياسية في خطوط السير على الطرقات، حتى عكس السير، وفوق الرصيف. المباحُ سيّد الموقف. جنون بلا أي انضباط أو إشارة، لم يروّضه أو يهذبه إلا بدء استيراد السيارات المكيّفة التي أقفلت الزجاج على غضب سائقيها، وتحول، أحياناً، بينه وبين غضب الآخرين. أما عشق اللبنانيين لسيارات الفورويل درايف، أو الجيب بحسب اختصار اللبنانيين، فآتٍ في غالب الظن من «ثقافة» الحرب والآلات العسكرية وسيارات أُمراء الميليشيات المعتّمة الزجاج. كأن العشق هذا توسّل للمرور فوق الآخرين، للثقة بأن هذا النوع من السيارات الضخمة يمنح السائق ومن برفقته قوة المرور وامتيازه قبل الأمان. فالأمان هنا من القوّة، بما في ذلك أثناء الاصطدام إذا ما حصل. فأن تكون في سيارة من هذا النوع يعني للبنانيين أنه لا أحد أو شيء يوقفك، وأنّ «الحادث» يضرّ الآخر أكثر مما يضرّك.
إبان الحرب، كان اللبنانيون يفضّلون السيارات الصبورة القادرة على تحمّل الشوارع المدمرة، وذات الكلفة المحدودة. أما اليوم، فكأنهم يفضّلون السيارات التي تمنحهم امتيازات المرور والاصطدام، كما لو أنهم يستعيضون بهذه السيارات عن الطرق الخاصة (العسكريّة) التي كانت موجودة إبّان الحرب وتمنح البعض أفضلية المرور عبر الحواجز والمعابر. ولعلّها تشبع أيَّ إحساس آخر بالخسارة أو الهامشية أو الإقصاء من السلطة. ليس كمثل اللبنانيين في البحث عن امتيازات، ولو وهمية. فالسائد هو السعي إلى المنافع وصورها لا إلى القانون أو الدولة. الوصول إلى المنصب هو الفوز بمصدر المنفعة، قبل أي شيء. إنه عقل الواسطة أيضاً. فالسيارات هذه تجعل سائقيها ومالكيها، أو هكذا يعتقدون، من أصحاب الواسطة وذوي نعمها. وما التهافت على الأرقام الصغيرة، من أربعة أرقام أو ثلاثة إلا توسلاً لتلك الصورة. فالأرقام الصغيرة تعني في قاموس اللبنانيين «الوصول» إلى الدولة وكتفها التي تؤكل، لا الواسطة من أجل الوصول. ومن خلال رقم خاص يريد صاحبه الوصول، لا السير الامتيازي على الطرقات فحسب. فاللبنانيون كافة يتصرفون، أثناء القيادة، كأنهم يريدون الوصول لا السير على الطرقات. وكلما تواضعت السيارة تقلّص هذا السعي، أو القدرة على إظهاره والمجاهرة به.
هذا ما يفسّر تململ سائقي سيارات النقل، المنهكة في السواد الأعظم منها، وتوقفهم المتكرر، من دون إنذار، وسط الطريق، من دون اعتبار لحركة السير والسيارات الأخرى. لكأن هذا السلوك وذاك التوقف ليسا للحصول على الركاب وحسب، بل هو اعتراض في الحيّز العام وتعطيل لدورته الطبيعية. اعتراض طالع من كون سائق سيارة الأجرة من المتضررين الذين لا يترددون في التعبير والقول إن النظام ترف تافه، وإن القانون لا يحمي المغفّلين الذين يلتزمون النظام، وإنّ الحياة للأقوى.
إذا كان سائق التاكسي يفعل ذلك وهو يسعى إلى رزقه، ثمة من يفعل ذلك من موقع «أعلى»، امتيازي وتشبيحي، ولا سيما إذا كانت سيارته «جيب» أو تحمل رقماً مميزاً. فسائق التاكسي والسائق «الأعلى» يسعيان إلى قلب معادلة النظام التي تجعلهما منضبطين أو خاسرين في فهمهما، أو يعتقدان ذلك، إلى معادلة تشبه معادلات رجال الميليشيات أيام الحرب. وهي أنّ من معه سلاح هو الأقوى، أقوى من الدولة والنظام ومالك البناية وصاحب المتجر وكل من له حياة ووظيفة وحبيب وأسرة... إلخ. فالسيارة، أي سيارة في لبنان، لا سيارة الأجرة فقط، هي سلاح، والذي يقودها كأنه يمسك سلاحاً (ثقيلاً أحياناً) ويملك الطريق ويقفل الشارع إذا أراد. والشارع أيضاً سلاح.
أنت تقود إذاً أنت مسلّح.