سلافوي جيجاكردّا الفعل الأوّلان من السهل فهمهما. فاليمينيون أنفسهم الذين كانوا يصرخون منذ عقود “أن تكون ميتاً أفضل من أن تكون أحمر!”، تسمعهم الآن يتمتمون في كثير من الأحيان، “الأحمر أفضل من أكل الهمبرغر”. ولكن الحنين الشيوعي لا ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد: فبعيداً عن التعبير عن رغبة فعلية في العودة إلى واقع الاشتراكية الرمادي، يبدو أقرب إلى شكل من أشكال الحداد، أو التخلص بلطف من الماضي. أمّا في ما يتعلق بصعود الشعبوية اليمينية، فهي ليست منحصرة في دول أوروبا الشرقية، ولكنها سمة مشتركة لجميع البلدان التي وقعت في دوّامة العولمة.
الأكثر إثارةً للاهتمام هو ما ظهر أخيراً من معاداة للشيوعية، من المجر إلى سلوفينيا. خلال خريف 2006، أصابت احتجاجات واسعة ضد الحزب الاشتراكي الحاكم المجر بالشلل لمدة أسابيع. المحتجون ربطوا أزمة البلاد الاقتصادية بحكمها من جانب خلفاء للحزب الشيوعي، وأنكروا الشرعية الكبيرة للحكومة، رغم أنها جاءت إلى السلطة من خلال انتخابات ديموقراطية. وعندما توجهت الشرطة لاستعادة النظام المدني، جرت مقارنات بسحق الجيش السوفياتي للتمرد المعادي للشيوعية عام 1956.
هذا التخوف الجديد المعادي للشيوعية يأتي بعد إشارات عدة. في حزيران 2008، أصدرت ليتوانيا قانوناً يحظر العرض العام للصور الشيوعية مثل المطرقة والمنجل، فضلاً عن عزف النشيد السوفياتي. في نيسان 2009، اقترحت الحكومة البولندية توسيع الحظر على الدعاية الشمولية، لتشمل الكتب الشيوعية والملابس وغيرها من المواد: يمكن أن يُقبض على شخص لارتدائه قميص تشي غيفارا.
لا عجب في أنه في سلوفينيا، تعتبر «قوة الاستمرارية» مع النظام الشيوعي القديم هي السبب في إلقاء اللوم الرئيسي من اليمين الشعبوي على اليسار. في مثل هذا الجو المحموم، جرى تقزيم المشاكل والتحديات الجديدة إلى مجرد تكرار للصراعات القديمة، وصولاً إلى الزعم السخيف (الذي يظهر أحياناً في بولندا وسلوفينيا) أن الدعوة إلى حقوق مثليي الجنس والإجهاض القانوني هي جزء من مؤامرة الظلام الشيوعي لتحطيم معنويات الأمّة.
ماذا لو لم تعد الديموقراطية المرافق الضروري والطبيعي للتنمية الاقتصادية، إنّما عقبة في وجهها؟
من أين يستمد إحياء معاداة الشيوعية قوته؟ لماذا أُحييت الأشباح القديمة في الدول التي لا يتذكر العديد من الشباب فيها الحقبة الشيوعية؟ توفر المناهضة الجديدة للشيوعية جواباً بسيطاً على هذا السؤال: «إذا كانت الرأسمالية في الواقع أفضل بكثير من الاشتراكية، فلماذا لا تزال حياتنا بائسة؟”. لأن الكثيرين يعتقدون أننا لسنا حقاً في الرأسمالية: ليس لدينا ديموقراطية حقيقية بعد، بل قناعها الخادع وحسب. القوى الظلامية نفسها لا تزال تسحب خيوط السلطة، وطائفة ضيقة من الشيوعيين السابقين يتنكّرون في زي ملائكة جدد ومديرين ـــــ لا شيء تغيّر فعلاً، لذلك نحن بحاجة إلى تطهير آخر، ولا بد من تكرار الثورة.
هؤلاء المعادون للشيوعية الذين عفا عليهم الزمن، يفشلون في إدراك أن الصورة التي يقدمونها لمجتمعهم تشبه إلى حد غريب الصورة اليسارية التقليدية الأكثر نمطية تجاه الرأسمالية: مجتمع تسوده الديموقراطية الشكلية التي تخفي الحكم الأقلية الثرية. بعبارة أخرى، مناهضو الشيوعية الحديثو المولد لا يدركون أنّ الرأسمالية البائدة المنحرفة التي يشجبونها إنما هي ببساطة الرأسمالية.
يمكن للمرء أن يجادل أيضاً أنه، عندما انهارت الأنظمة الشيوعية، فإنّ الشيوعيين السابقين كانوا أكثر فاعلية في تشغيل الاقتصاد الرأسمالي الجديد، من المعارضين الشعبويين. ففيما استمرّ أبطال الاحتجاجات المناهضة للشيوعية في أحلامهم بمجتمع جديد من العدالة والنزاهة والتضامن، كان الشيوعيّون السابقون قادرين على تكييف أنفسهم مع قواعد الرأسمالية الجديدة، والنظام القاسي لفاعلية السوق، بما في ذلك الفساد وكل الحيل القذرة، الجديدة والقديمة.
وهناك لمسلات جديدة تُضيفها تلك الدول التي سمح الشيوعيّون فيها بالانفجار الرأسمالي، مع احتفاظهم بالسلطة السياسية: يبدو أنهم أكثر رأسماليةً من الرأسماليين الليبراليين الغربيين. ففي ضرب جنوني، انتصرت الرأسمالية على الشيوعية، ولكن ثمن هذا الانتصار هو أن الشيوعيين الآن يغلبون الرأسمالية على أرضها.
هذا هو السبب الذي يجعل الصين اليوم مثيرة للقلق: الرأسمالية كانت تبدو دائماً مرتبطة ارتباطاً وثيقا بالديموقراطية، وفي مواجهة انفجار الرأسمالية في جمهورية الصين الشعبية، كثير من المحلّلين لا يزالون يفترضون أن الديموقراطية السياسية ستفرض نفسها لا محالة.
ولكن ماذا لو أن هذا الصنف من الرأسمالية الاستبدادية أثبت نفسه بأنه أكثر كفاءة وأكثر ربحية، من رأسماليتنا الليبرالية؟ ماذا لو لم تعد الديموقراطية المرافق الضروري والطبيعي للتنمية الاقتصادية، إنّما عقبة في وجهها؟
إذا كانت هذه هي الحال، لا ينبغي ربما اعتبار خيبة الأمل من الرأسمالية في بلدان ما بعد الشيوعية مجرّد إشارة بسيطة للتوقّعات «غير الناضجة» من قبل الناس الذين لا يملكون صورة واقعية للرأسمالية.
عندما احتجّ السكان على الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، فإنّ الغالبية العظمى منهم لم يطالبوا بالرأسمالية. أرادوا الحرية في أن يعيشوا حياتهم خارج سيطرة الدولة، أن يجتمعوا ويتحدثوا كما يحلو لهم، أرادوا حياة من البساطة والإخلاص، متحررة من التلقين الإيديولوجي البدائي والنفاق السائد.
كذلك لاحظ العديد من المعلّقين، أنّ المُثل التي قادت المتظاهرين كانت إلى حدّ كبير مأخوذة من الفكر الاشتراكي الحاكم نفسه ـــ الناس يتطلعون إلى شيء يمكن أن يلقّب بـ“الاشتراكية ذات الوجه الإنساني”. ولعلّ هذا الموقف يستحق فرصة ثانية.
يعيد ذلك إلى الأذهان حياة وموت فيكتور كرافتشنكو، المهندس السوفياتي الذي فرّ عام 1944 خلال بعثة تجارية إلى واشنطن، ثمّ كتب مذكّراته الأكثر مبيعاً “لقد اخترت الحرية”. وكان تقريره بصيغة الأنا عن الأهوال الستالينية، قد تضمّن وصفاً تفصيلياً للجوع الشامل في أوكرانيا الثلاثينات حيث عمل كرافشينكو ـــــ الذي كان لا يزال مؤمناً حقيقياً بالنظام ـــــ على تقوية العمل التعاوني.
ما يعرفه أغلب الناس عن كرافشينكو ينتهي في عام 1949. في تلك السنة، رفع دعوى ضد “الرسائل الفرنسية” بعدما زعمت الأسبوعية الشيوعية الفرنسية أنه كان سكّيراً ويضرب زوجته، وأن مذكّراته عمل دعائي من صنع الجواسيس الأميركيين. في قاعة المحكمة الباريسية، شهد الجنرالات السوفيات والفلاحون الروس مناقشة حقيقة لكتابات كرافشينكو، فتطورت المحاكمة من دعوى شخصية إلى عرض اتهامي للنظام الستاليني كله.
لكن مباشرة بعد فوزه في هذه القضية، وفيما كان كرافشينكو لا يزال يتلقى إشادات من جميع أنحاء العالم باعتباره بطلاً في الحرب الباردة، كانت لديه الشجاعة للتحدث بانفعال ضد جوزيف مكارثي. فكتب يقول “أعتقد عميقاً أنه في الكفاح ضد الشيوعيين ومنظماتهم لا يمكننا، ويجب ألّا نلجأ إلى الأساليب والأشكال المستخدمة من جانب الشيوعيين”. وحذر الاميركيين من أنهم، عبر مكافحة الستالينية بمثل هذه الطريقة، يخاطرون في البدء بأن يشبهوا خصومهم.
كرافشينكو أصبح أيضاً أكثر وأكثر توجّساً من عدم المساواة في العالم الغربي، وكتب تتمة لـ“اخترت الحرية” جاءت تحت عنوان معبّر “اخترت العدل”. وكرّس نفسه لإيجاد أشكال عمل جماعي أقل استغلالاً، وانتهى في بوليفيا، حيث أهدر كل أمواله في محاولة لتنظيم المزارعين الفقراء. مسحوقاً بهذا الفشل، انسحب إلى حياته الخاصة، وأطلق النار على نفسه عام 1966 في منزله في نيويورك.
كيف وصلنا إلى هذا؟ بعدما خُدعنا بشيوعية القرن العشرين، ورأسمالية القرن الواحد والعشرين، لا يسعنا إلّا أن نأمل في مجموعة من كرافشينكو جدد، وأن يتوصلوا إلى نهايات أكثر سعادة. في البحث عن العدالة، سيتعين عليهم البدء من الصفر. سيكون عليهم أن يخترعوا أيديولوجياتهم الخاصة. وسوف يُعلنون كطوباويين خطيرين، لكنهم وحدهم استيقظوا من الحلم الطوباوي، الذي يحتجز البقية منّا تحت نفوذه.
* فيلسوف سلوفيني
(عن “نيويورك تايمز” ــ ترجمة جمانة فرحات)