عبد الأمير الركابي * لنفترض أن أحداً من المناصرين لحزب الله اللبناني أو من كوادره أو القريبين منه خرج اليوم على الناس يقول: إذا نحن لم نجد أهدافاً إسرائيلية نوجه بنادقنا إليها، فلنحوّل المعركة إلى الداخل ونقاتل كل لبناني ينتمي إلى المعسكر المقابل. لقد تحدث السيد حسن نصر الله قبل الانتخابات اللبنانية الأخيرة حديثاً وجده الجميع في غير محله، وخاطئاً، عندما تطرق لصوابية 7 أيار. والبعض قالوا إن الأمر كان مقصوداً لأجل التهييج الطائفي المضاد، لأن السيد لم يكن يريد انتصاراً انتخابياً يتحول إلى حجة إسرائيلية وذريعة للتوتير في المنطقة. وذلك الرأي يندرج في باب الاستفظاع والتحريم الأقصى لنهج استعمال السلاح في الشأن الداخلي بين اللبنانيين. ومن جهة أخرى، ليس من يعلن صراحة أن حماس يجب أن تذهب إلى مقاتلة فتح، والعملية التي أدت للانشقاق الفلسطيني الكبير في غزة يدينها الجميع حتى اليوم، ولا يجرؤون على تسويغها على أي مستوى كان، والجهود التي تُبذل، والأصوات التي تتعالى تقول مجتمعة إن مصلحة الفلسطينيين تكمن في «المصالحة» لا في الاصطراع، وإن جهود الجميع يجب أن تتوجه نحو إعادة اللحمة الفلسطينية قبل كل شيء. وثمة دول مثل مصر لا تتوقف منذ شهور طويلة عن بذل المساعي توصلاً إلى تلك المصالحة. أما عندما يتعلق الأمر بالعراق، فإن الموقف يتحول إلى صمت، والغالبية تحبّذ، من دون أن تفصح علناً، انتصاراً كاسحاً لـ«المقاومة» على غيرها. وفي الآونة الأخيرة، كتب البعض يقولون إن على العمل العراقي المقاوم أن يوجّه بنادقه بعد تعذّر الوصول إلى الأهداف الأميركية، نحو صدور العراقيين من العملاء والعاملين في أجهزة الدولة والمنخرطين في «العملية السياسية».
لا شيء يقال هنا، وليس ثمة حجج كثيرة يضطر أحد لإلقائها، كأن الأمر بديهي تماماً. ففي العراق احتلال، ومن انخرطوا في «العملية السياسية الأميركية» هم عملاء الاحتلال والمتعاونون معه، جاؤوا على ظهور الدبابات الأميركية. هذا صحيح، وهو أمر فظيع، ومدان ولا ينبغي لمن ارتكبوه أن يفلتوا من الحساب أو العقاب على فعلتهم تلك. لكن مَن قال إن معاقبة المتواطئين والمتعاملين مع محتل تعني أو تجيز قتل الناس بالجملة؟
عرف العراق خلال ست سنوات قرابة 21 ألف انفجار تساوي كل ما عرفته الكرة الأرضية من انفجارات على مدى نصف قرن
تقول الإحصاءات إن العراق عرف خلال ست سنوات قرابة 21 ألف انفجار تساوي كل ما عرفته الكرة الأرضية من انفجارات على مدى نصف قرن. ومع احتساب الفوارق في نسب المساحة وأعداد البشر، يمكن أن نقدّر أو نتخيل ما الذي حدث في هذا البلد المنكوب. والأهم والأنكى ليس هذا، بل إن حوالى 17 ألفاً من تلك التفجيرات استهدفت المدنيين في الأسواق وأمام المدارس ومواقع التجمعات المدنية، وكل هذا يدخل في باب «المقاومة». فتصوروا لو أن عشرة انفجارات طالت جونية وزحلة وكسروان. وتصوروا لو أن مدرسة للأطفال في الضفة اقتحمها انتحاري من حماس بسيارته المفخخة وقتل عدداً من الأطفال باسم النضال والثورة وضد تفريط السلطة وتعاون بعض رموزها، بمن فيهم أولئك المعروفون ممن قال لهم عرفات قبل موته بأشهر: «قاتل أبيه لا يرث»، وقتل ياسر عرفات تنفيذاً لوعد من الابن القاتل للإسرائيليين مباشرة. الأفظع أن يقرر مؤتمر لفتح منح هذا القاتل مرتبة «وريث» فيصبح حتى قتلة آبائهم ورثة كما هو شائع اليوم، وها هو يكافأ بمركز مناضل وطني ممتاز، أي عضو في لجنة مركزية فتح. فهل تحولت هذه المنظمة يا ترى إلى مؤسسة تابعة للدولة الإسرائيلية؟ ولا داعي للحديث عن لبنان، ولا عن سيرة قادة ذهبوا بعيداً، وكانوا إلى أيام لا تزال حاضرة وطرية في الأذهان يأملون حلاً أميركياً وإسرائيلياً، ثم عادوا يمتطون جحشتهم العرجاء، فإذا بسيد المقاومة يستقبلهم مع ورثتهم هم أيضاً، والأحزاب الأكثر تشدداً تعقد معهم مصالحات في صوفر يلقون فيها خطباً تنضح وطنية ويسارية.
ثمة خلل غريب، بعيد كلياً عن أي منطق، يحكم حالة العراق مقارنة ببقية العالم العربي. فـ«العمليات السياسية» العربية تباهي بأنها غير محتلة، بينما «العملية السياسية الأميركية» في العراق تعيش بظل الاحتلال ورعايته، وهذا يولّد بداهة تصلح لأن تكون مجال ازدراء للعقل العربي، بينما يخطر على البال تقدير مقلوب. فثمة في العالم العربي «عمليات سياسية» لا تحتاج إلى احتلال، و«عملية سياسية» عراقية لا يمكن أن تقوم إلا باحتلال. لا يحتاج الأميركيون إلى احتلال مصر كي يقيموا فيها «عملية سياسية»، والسياقات التي أفضت بالبلد الأكبر عربياً من عبد الناصر إلى كامب ديفيد، انحداراً، إلى بدايات ترهل وموت الدولة في مصر، تغني تماماً عن احتلالها. والأمر يتدرج على مستويات، ففي لبنان تطرأ الحاجة إلى الاحتلال والتدمير حماية لعملية سياسية تريد أن تبتلع المقاومة، فإذا عجزت أو هددت، حضر الاحتلال. ألا يعيش الأردن حالة «عملية سياسية» مستديمة؟ وماذا في المملكة العربية السعودية يا ترى؟ دعونا من تونس والجزائر أو من الكارثة الليبية... هنالك قانون يعامل «العمليات السياسية» حسب درجة خضوعها أو حاجتها للاحتلال أو عدم حاجتها له. فسوريا تحاصَر وتهدّد، وحين تقترب من «العمليات السياسية الأخرى» أو توحي بذلك، يرخى الحبل من حول عنقها، وهكذا دواليك.
جانب آخر يوضح الصورة الغريبة يتعلق بالديناميات، وهل تعمل هذه داخل كل «عملية سياسية» بالضد من الخضوع أم لتكريس الخضوع؟ أحياناً يتراجع بعضهم في أماكن بعينها، مثل لبنان، لأسباب لا علاقة لها بالاقتناع والتاريخ، بل بفشل مراهنات، فيقبلون وتكاد تمحى ذنوبهم. أما في العراق، فالقانون هو قانون الكتلة الفولاذية الصلبة. لن نبحث في الآليات والأسباب، ولا في تاريخ العراق وشكل الحكم الكريه الذي كان قائماً فيه، ولا في مسارات تستغرق العصر الحديث برمته، مع كل تعرجاته وتجاربه الرهيبة، كل هذا لا وجود له. وإذا تبين أن آليات جديدة بدأت تشير إلى تأزم، واحتمال تشقق «العملية السياسية الأميركية» في العراق، وحتى تفجرها، يتحول الميل الغريزي فوراً نحو مزيد من شيطنة الآليات المستجدة وإشعال النار بوجهها، لا بوجه العملية السياسية الآيلة إلى الانفجار. ومع أقصى قدر من خلط الأوراق، لن نعدم وقتها سماع صوت عراقي مهووس يقول: إذا تعذر علينا الوصول إلى الأهداف الأميركية، فالواجب أن نركز على الأهداف العراقية، يجب ألاّ نسمح لهم بالقفز من السفينة.
هل هذه حرب إبادة استباقية؟ ألا يستحق الأمر وقفة انتباه وفحص، وما الذي يعنيه يا ترى التقاء الثوريين و«العمليات السياسية» العربية معاً على اعتماد منطق وحيد لتحرير العراق، الإبادة؟ لدينا هنا شيء ما لا يخضع لأي نوع من المنطق، يدور داخل مدى مميت يجعل المرء يسأل: لماذا تعمل «العمليات السياسية العربية» القائمة من دون احتلال، وبسبب انعدام الحاجة للاحتلال، على منع احتمالات تفجر عملية سياسية محتلة بلغت أقصى حدود التأزم ذاتياً؟ سؤال!!

* كاتب عراقي