نهلة الشهالتعلمون: مرّ عام! ما الذي لا تعلمونه؟ لا شيء حقاً، فمن المدهش مدى توافر كل التفاصيل. مصر تتفنّن في بناء جدارها، فتجعله مقلوباً، مغروساً أسفل الأرض، وتجر إليه مياه البحر، وتضاعفه بسياج مكهرب. السلطة لا تكترث، وحماس لا تكترث أكثر، ما دام الأمر ابتزازاً متبادلاً. تعرفون ذلك المثال عن عض الأصابع. ولو كان ذلك فحسب لهانت. ولكن العناد هنا يفتقر إلى تصوّر ما بعده. ليس من جهة إسرائيل، التي تعرف ما تريد: كل شيء. ولكن بخصوص ما تريده السلطة وحماس، عدا العبث بالمعطيات كما تقدّم نفسها. ويسمّون ذلك سياسة!
مبادرات المناضلين الدوليين، على محدوديتها، تتوجه إلى غزة سعياً إلى التعبير عن حركة تضامنية، ولو رمزية، فتُمنع. قافلة «شريان الحياة» متوقفة في ميناء العقبة، وأبناء «مسيرة الحرية لغزة»، الموجودون في القاهرة، مدعوّون إلى توظيف رحلتهم بالسياحة في معالم المدينة. غزة مستحيلة. وليس من يعرف ما العمل. فعلاً، لا خطابة فارغة وزعيق.
هل يمكن قتل السلطان بالسخرية؟ سلاطين زماننا لا يأبهون، فهم ليسوا بصدد البحث عن أي رداء من شرعية. الملك عارٍ؟ وإذا؟؟ يقول وزير الخارجية المصري، السيد أبو الغيط، إن مصر تمارس هنا «فعل سيادة». يعني هي حرّة في أن تخضع للرغبات الأميركية والإسرائيلية، وحرّة في أن تقطع صلتها بغزة. هل ستجادلون بأن تلك ليست حرية بل عبودية؟ ثم ماذا؟؟ هل ستجادلون بأن ذلك يُخرج إسرائيل من جرائمها مثل الشعرة من العجين، فيصبح جدارها في الضفة رحيماً مقارنةً بهذا، ويصبح قتل الناس بالقصف كقتلهم بالإمعان في الحصار، فكلّه موت. هل ستقولون عيب وحرام...كفى تفلسفاً.
مصر تستقبل بعد أيام نتنياهو. في عز الذكرى الأولى للعدوان على غزة، مصر تكرّر رسالتها، ضماناً لحسن التلقي والتفسير: الجدار ثم هذه الزيارة. هي تقول إنها غير معنية بتحمّل العبء وحدها. وفي ذلك وجاهة. أين الآخرون؟ السعودية تحارب في اليمن، والجزائر تتسلى بكرة القدم، والمغرب يتلهّى بمشكلات الصحراء، والعراق أشلاء، وسوريا مشغولة ببناء عزِّها الخاص، والأردن يتطلع إلى مَنّ السماء الآتي مع صفقات سياسية مشبوهة. مصر تقول ـــــ في السر ـــــ إن ضغوطاً هائلة تمارَس عليها. ولكن البنية القائمة على السلطة فعلت، بأناة، كل شيء للتحرر من الضغوط المقابلة: أصبح السادة الوزراء، بعد السادة الرؤساء وذريتهم الميمونة، يسكنون في أحياء خاصة بهم، مسيّجة، لا يمكن رمي زجاج قصورها بالحجارة، ولا حتى بالورود، أو هي مسيجة وبعيدة، مستوطِنة في المربعات الخاصة الجديدة خارج العاصمة. أصبح تعداد قوات الأمن الخاصة أكثر من مليون وأربعمئة ألف شرطي مدجّجين بالسلاح، مدربين على القمع الشرس فحسب، ويتلقّون رواتب مضاعفة مقارنةً بسائر الوحدات. وقوات الأمن تلك مقيمة في ثُكن داخل القاهرة وحدها. والمدينة تزنّرها أحزمة البؤس وأحياء العشوائيات: أحد عشر مليون إنسان هائم على وجهه يلتقط قوته كيفما تيسّر. أصبح الريف مهملاً عطشان، خفيّاً غير مرئي (وإذاً غير موجود!) حين لا يكون ينتظر وصول المضاربات العقارية إليه حتى يترك الأرض مقابل حفنة من الجنيهات، أو بالقوة، ويلتحق بالعشوائيات في القاهرة الكبرى. أما الأعمال فبألف خير، وقد تضاعف عدد أصحاب الملايين في مصر، يأتون بأموالهم من وجودهم في السلطة، ومن تنظيم إدارة الفساد، وأيضاً من احتكار بيع الخدمات للناس، كلّ بحسب حاجته وإمكاناته. فمن أين سيأتي ضغط يوازن ذاك؟ لعله يحصل في أحد الأيام انفجار، ليس بسبب المبادئ ولا التضامن ولا العيب والحرام، بل بسبب الجوع واليأس. ولكن الانفجار هنا فوضى فحسب، لا تغيير. وشبحه يخيف ويلجم أكثر مما يشجع ويدفع. وهو يحث العديدين على المفاضلة واختيار إبقاء القائم، فشرّ تعرفه أهون من... وتلك للمناسبة حالة عامة لا تخص مصر وحدها. بمعنى أن العراء شامل: كل السلطات في المنطقة خاوية. أما المعارضات، فتولد بعسر وتحتاج إلى حاضنات، أو تولد ميتة، أو هو حمل كاذب! والغالب على من بقي فيه روح هو الاستقالة أمام جسامة المهمّة.
وبالطبع، تزدهر البدائل. إيديولوجيات الواقعية البشعة والمقاربات السينيكية وتبريرات شريعة الغاب. ومعها كل أدوات التحشيش: بالمعنى الحرفي والمجازي. الفن الهابط (بات اسمه تهذيباً «شعبياً»، وهذه سُبّة مضاعفة)، والسكن ـــــ الموهوم ـــــ في السماء.
هل، رغم ذلك، تصل الكلمة إلى غزة، ضحية حلقات الحصار اللامتناهية؟ إنْ تصل، فاعلموا أن لكم عندنا، رغم ذلك، ما نملك: نبض الروح. وسلاماً.