إن موضوع المحاكم الروحية ودورها في المجتمع أخذ الكثير من الكلام والمجادلات، فالبعض يعتبرها سيفاً مُصلتاً من الكنيسة على الطوائف الكاثوليكية والبعض الآخر يعتبرها ضمانة لمفهوم العائلة.
والبابا فرنسيس الآتي من القارة التحرّرية والمحب للفقير والثائر بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية، ليعيد للكنيسة وأحبارها دورهم الإنساني الكامل فيتشبهوا بالمسيحيين الأوائل والرسل ويسوع المسيح عوضاً أن يتشبهوا بالأباطرة والحكام الرومان، قد ترجم قناعته ومسيرته هذه بإصدار الإرادة الرسولية «يسوع الوديع والرحوم»، وهي ثورة في الحق الكنسي إذ أعلنت معايير جديدة ونصت قوانين جديدة لأصول المحاكمات الكنسية في قضايا إعلان بطلان الزواج في مجموعة قوانين الكنائس الشرقية لإصلاحها وارتدادها،
وباختصار قد أُخضعت أصول المحاكمات الكنسية، لفضيلتي الرحمة والوداعة فجعلت الإنسان والعائلة محور الدعوى الزوجية بدلاً من النصوص الجامدة والمعايير القانونية التي تجعل الإنسان عبداً للحرف، لتدخله في منطق قانوني جديد يجعله يختبر جمال يسوع الرحوم والوديع حتى في الدعاوى الزوجية.
وخاصة أن الأصول العادية المعتمدة حالياً تلزم خضوع دعاوى إعلان بطلان الزواج لهيئة جماعية وتفرض وجود حُكمَين متطابقين، فتبدأ الدعوى من الأسقف الأبرشي الذي يحيل الدعوى على المحكمة الروحية ليصار الى إجراء جلسة مصالحة، ومن ثم جلسة حصر النزاع، وجلسة استجواب الطرفين ومن ثم جلسات الشهود وتقديم الإثباتات والخبرة، ليصار من بعدها لاختتام المحاكمة وإصدار حكم نهائي إبتدائي، ويستأنف إلزامياً فيصدر حكم الاستئناف قابلاً للتنفيذ إن جاء مطابقاً، ويحيلها أسقف الأبرشية على دوائر التنفيذ مع إشارة حكم صالح للتنفيذ.
إن الإرادة الرسولية «يسوع الوديع والرحوم» تتكون من مقدمة وثلاثة أقسام:
أكد البابا فرنسيس في المقدمة أن الأسقف يضطلع بمهام القاضي والطبيب خلال ممارسته لمهامه القضائية فعليه أن يكون خادماً للرحمة الإلهية ليحمل للمؤمنين المحتاجين رحمة الرب الشافية لجروحاتهم. وفرض على الأساقفة أن يطبقوا هذه الإرادة بفعالية وبدقة ورفعها فوق الأنظمة والقوانين كافة التي تخالفها.

أُخضعت أصول
المحاكمات الكنسية لفضيلتي الرحمة
والوداعة


في القسم الأول من الإرادة حدد المعايير الجديدة التي ارتكز إليها الإصلاح وهي ثمانية:
1- عدم الحاجة لحكمين متطابقين لإعلان بطلان زواج.
2- إمكانية الحكم ببطلان الزواج من قبل الأسقف كقاضٍ منفرد في الأصول المختصرة.
3- الأسقف في أبرشيته هو القاضي.
4- اعتماد الأصول المختصرة الجديدة في الحالات المذكورة أعلاه.
5- الاستئناف يبقى خياراً ممكناً أمام المحاكم الاستئنافية.
6- على المجالس الأسقفية في الكنائس الشرقية احترام حق الأساقفة بتنظيم سلطتهم القضائية في كنائسهم الخاصة بشكل مطلق.
7- أن تُحفظ المجانية في أصول المحاكمات على أن توفَّر للعاملين في المحاكم أجورهم بما يحفظ كرامتهم.
8- المحافظة على حق الاستئناف أمام محكمة الروتا الرومانية على أن يتم تعديل نظام هذه المحكمة الداخلي بأسرع وقت ممكن وفقاً للمعاير المعتمدة في هذا الإصلاح.
وأمر بأن يعمل بها ابتداء من 08/12/2015 في المحاكم الكنسية الشرقية. ومن ثم في القسم الثاني نص على قوانين أصول المحاكمات الجديدة الواجب اعتمادها.
ومن أهمها القوانين 1369 ولغاية 1373 والتي حددت أصول المحاكمات المختصرة الجديدة الواجب اعتمادها من قبل الأسقف الأبرشي بنفسه عند توفر الشرطين التالين معاً:
1- أن يطلب كلا الطرفين أو أحدهما دون ممانعة الأخر اعتماد الأصول المختصرة.
2- أن تتوفر ظروف في الواقع وفي الأشخاص مثبتة بشهادات أو مستندات تؤكد البطلان.
مع الإشارة إلى أن أعمال التقاضي في الأصول الموجزة لا تتعدى بمجملها منذ تاريخ حصر موضوع الدعوى 45 يوماً، وعند نهايتها يطلع الأسقف على أعمال الدعوى ويستمع لمن يقتضي الاستماع إليه، فيصدر حكمه إما بإعلان بطلان الزواج أو بإحالة الملف الى المحكمة الجماعية للنظر بالدعوى وفقاً للأصول العادية.
مع تأكيد حق كل طرف في الدعوى باستئناف قرار الأسقف الصادر وفقاً للأصول الموجزة، لدى المحكمة الاستئنافية.
وثم أضاف في القسم الثالث نظماً لمحاكمات بطلان الزواج وأبرزها المادة 14 التي ذكر فيها صراحة بعض الظروف التي تسمح بمنح بطلان الزواج وفق الأصول المختصرة، على سبيل المثال قصر مدة التساكن، وقلة الإيمان التي تولد التلجئة والغلط وغيرها.
وهذه تفتح أفاقاً لاجتهادات جديدة في وسائل إثبات أسباب إعلان بطلان الزواج.
مما لا شك فيه أن الكمال لله وحده وأن الكنيسة المجاهدة تسعى للتقرب من كمال الله، وأن المحاكم الروحية تقدمت بشكل كبير وأصبحت أكثر تطوراً من كثير من القطاعات والمحاكم في لبنان وقضاتها من الأكثر نزاهة في السلك القضائي اللبناني ودورها في حماية العائلة والإنسان يبقى هو الأساس.
*محامٍ لبناني