سعد اللّه مزرعاني *النقاش الذي أطلقته دعوة الرئيس بري لتأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية حسب نصّ المادة 95 من الدستور، كشف، ولا يزال، مجموعة أساسية من العوامل المؤثّرة في هذا الحقل. لكنّ أبرز ما كشفه هو ذلك التناقض القائم ما بين الحاجة الوطنية إلى إلغاء الطائفية السياسية من جهة، والمستوى المخيف الذي بلغه الاستقطاب الطائفي والمذهبي، من جهة أخرى. لهذا السبب يتابع المرء تلك «الشوربا» التي تميّز النقاش وردود الأفعال. فالأمر، بسبب الجهة مصدر الدعوى (وهي جهة ذات صفة دستورية، وذات تمثيل سياسي واسع، وذات موقع مؤثّر في عملية المحاصصة ونظامها)، قد اكتسب طابعًا سجاليًا حادًّا وجادًّا. وبسبب ذلك اضطُرّ كثيرون إلى كشف حقيقة مواقفهم، ولو أنّ المناورة ما زالت هي ما يوجّه مواقف عدد آخر لا يُستهان به من الأطراف والشخصيات السياسية.
أوّلاً يجب ملاحظة أنّ رئيس الجمهورية قد خطا خطوة إلى الوراء قياسًا على مواقفه السابقة. وهذه الخطوة تمثّلت بدءًا، في إعلان شيء من التحفّظ على موعد دعوة الرئيس بري وشكلها، وثانيًا إلى التأكيد أنّ «المناصفة» ستبقى أساس الحكم في البلاد. قد يكون لدى الرئيس تصوّر آخر لمقاربة الموضوع (عبر الحوار مثلاً، وعبر السعي للتوافق، وهذا ضروري كمنطلق وكمبدأ وإن كان الإجماع أو التوافق مستحيلاً!)، لكنّ الإصرار على المناصفة دون تحديدها حصريًا في «مجلس الشيوخ» العتيد، سيطيح حتمًا كلّ عملية الإلغاء من أساسها.
ربما أيضًا، أنّ رئيس الجمهورية، وقع تحت تأثير ردود فعل البطريركية المارونية والقوى السياسية الحليفة لها، التي سارعت مسارعة كاملة وشاملة إلى رفض المشروع، رابطة بحثه بنزع سلاح المقاومة أو بإزالة الطائفية «من النفوس قبل النصوص»...
تحرير الصراع من الطائفية والمذهبية حاجة ملحة للقوى التي تضع مقاومة المشاريع الأميركية والصهيونية في مقدّمة أولوياتها
بالمقابل، لن نبحث في النيات، كما فعل البعض بالنسبة لموقف رئيس المجلس النيابي ودعوته. بالتأكيد هذه الدعوة غير معزولة عن سياق التطوّرات الداخلية والإقليمية. وهي غير معزولة حتى، عن السجال الذي كان دائرًا بشأن تأليف الحكومة. لكنّ الصحيح أيضًا، هو أنّ هذه الدعوة تجد أحد أبرز أسبابها في الأزمات التي يفاقمها النظام الطائفي والنتائج التي تولّدها استقطاباته وتوازناته على مصالح المنخرطين فيه أنفسهم. ولأسباب متعدّدة في حركة متغيّرات الداخل والخارج وتفاعلهما، يفقد الرئيس بري المزيد من أسباب القوة والتأثير لمصلحة قوى أخرى. وهذه العملية تسير في خط متصاعد ولن تعود أبدًا المرحلة التي كان فيها رئيس
حركة «أمل» المحاصص الأوّل و«الممتاز» في لبنان! أما بالنسبة إلى «حزب الله»، فهو لم يفاجئ أحدًا بالمعادلة التي اختارها واستراح إليها، سبيلاً إلى تعامله مع هذا الموضوع. فمن جهة، وكما ورد في وثيقته البرنامجية «فإنّ المشكلة الأساسية في النظام السياسي اللبناني، التي تمنع إصلاحه وتطويره وتحديثه باستمرار، هي الطائفية السياسية». ومن جهة أخرى، فأمر معالجتها مؤجّل حتى إشعار آخر. ليس ذلك فقط، بل إنّه قد جرى التركيز على المرحلة الانتقالية، باستعادة نظرية «الديموقراطية التوافقية»، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً. ليس خطأً اعتماد التوازن والتوافق في المرحلة الانتقالية، لكن ذلك يجب أن يبدأ بإقرار «خطة مرحلية» كما جاء في النص الدستوري، من أجل المباشرة في تحقيق تدرجي للإلغاء. وحيث إنّ التجربة التاريخية تحيل، للأسف، إلى المماطلة وعدم الالتزام حتى بالنصوص الدستورية، فيصبح مشروعًا الاستنتاج أنّ المرحلة الانتقالية ستدوم وتدوم «إلى ما بعد أجيالنا»، وأنّ ما سيحصل هو تنظيم العلاقات في هذه المرحلة، لا الانتقال إلى مرحلة أخرى!
«حزب الله» يستطيع، مع ذلك، أن يبرّر الأمر بأولويّته المتعلّقة بالمقاومة وسلاحها وحمايتها. لكنّ هذا الأمر نفسه بات يستوجب بناء معادلات داخلية جديدة. ولقد دلّت على ذلك تجربة السنوات القليلة الماضية، حيث لم يكن الضغط الداخلي على المقاومة، أقلّ من الخطر الخارجي عليها. أما السبب فهو الانقسام الطائفي والمذهبي في الداخل، وتغذية هذا الانقسام ومحاولة تعميقه وتعميمه من جانب واشنطن في نطاق محاولة فرض مشروع سيطرتها في المنطقة بدءًا من غزو أفغانستان ومن ثمّ العراق خاصة.
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ تحرير الصراع من الطائفية والمذهبية هو، كما تدلّ الوقائع، اليوم وغداً، حاجة ملحة للقوى التي تضع مقاومة المشاريع الأميركية والصهيونية في مقدّمة أولوياتها. ولا ينطبق هذا الأمر على القوى المرتبطة بهذه المشاريع أو الحليفة لها. تدلّ على ذلك السجالات المريرة التي رافقت تأليف الحكومة وحتى الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء أوّل أمس. فالقوى الأكثر تحفّظًا على المقاومة وفعلها ودورها، هي الأكثر تمسّكًا بالطائفية وبالمذهبية، وهي التي ربطت على نحو قاطع الأمرين معًا!
لكنّ ذلك، لن يعفي أيضًا، من القول إنّ التقدّم الذي فرض مباشرة البحث في تطبيق إصلاحات الدستور، إنّما ينجم عن عوامل سلبية كما ذكرنا. المقصود بذلك أنّ هذا البحث قد عجّلت فيه إلى حدّ كبير، مشاكل المحاصصة، أكثر ممّا فرضه ضغط سياسي صادر عن قوى متضرّرة من نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية، نفسه. ما وصفناه بـ«الشوربا» الحالية يعود إلى هذا الأمر أساسًا. ويستدعي هذا الأمر إطلاق حملة سياسية تأسيسية بالمعنى الكامل للكلمة، من أجل بناء موقع سياسي وشعبي ضاغط، من أجل التخلّص من الطائفية السياسية. هذا عمل ذو أولوية. وهو يجب أن يكون أحد البنود الرئيسة في بناء معارضة تتوسّع باستمرار، بهدف توفير ميزان قوى يستطيع أن يؤمّن الشروط الضرورية لبناء دولة عصرية حديثة، أي دولة قانون ومؤسسات ومساواة وحريات... بالمعنى الضروري للكلمة. ولعلّ أكثر ما يفرض التسريع في بناء الموقع المذكور الخشية الكبيرة من أن يقفل النقاش حول إلغاء الطائفية السياسية على زغل، أو على تأجيل، أو على مساومات، أو على تراجعات... فالواقع أنّه لا ضمانات للمضيّ في طرح الموضوع وإيصاله إلى خواتيمه السعيدة من جانب قوى المحاصصة نفسها رغم التناقضات المشار إليها آنفًا. الضمانات يجب إيجادها في مكان آخر، وهي يمكن أن تكون عبر إنشاء مركز رصد ومتابعة وضغط وتأثير. تلك هي الأولوية الآن وفي سياق سبق أن ذكرناه من خطة متنوّعة العناوين في مواجهة الهيمنة الاستعمارية والتهديدات الصهيونية، وكذلك مواجهة التفتيت والتبعية والانقسام والتخلّف السياسي والاقتصادي على حدّ سواء.
* كاتب وسياسي لبناني