اسطنبول | بعد ٦٥ شهراً على انتفاضة الشعب التونسي، حينما أحرق الشاب بوعزيزي نفسه (١٧ كانون الأول ٢٠١٠)، وإعلان «الربيع العربي»، لا يزال الإعلام على نهجه المتفق عليه إقليمياً ودولياً. وهو ما يعني «فن صناعة الأكاذيب» وتسويقها بالكم والحجم الأمثل.فقد اتفقت كل وسائل الإعلام العالمية، وفي مقدمتها الأميركية والأوروبية، وبالتالي امتداداتها العربية وغير العربية، على تسويق فكرة «الربيع العربي» مهما كلفها ذلك من أكاذيب صغيرة كانت أم كبيرة، ولإقناع الشعوب العربية بأن هذا «الربيع» سيحمل لها الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان.
ومن دون أن يسمح لأي إنسان أن يسأل أو يتساءل كيف يمكن لدول إستعمارية وإمبريالية ورجعية عربية وإسلامية ان تأتي بهذه «الهدايا القيّمة» للشعوب المظلومة، وهي أساساً معادية للديموقراطية والإنسانية. كما لم يسمح لأحد بأن يسأل أنظمة الخليج الرجعية والمتعفنة، وفي مقدمتها قطر والسعودية، «لماذا لا تأتي بالديموقراطية لشعوبها قبل مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن؟»، وهذا بالطبع إذا تجاهلنا جميعاً ما حدث في البحرين.
وكانت السنوات الخمس الماضية فرصة ثمينة بالنسبة للإعلام الإمبريالي والإستعماري والرجعي الإقليمي العربي وغير العربي، ليثبت قوته في السيطرة على أدمغة وعقول البشر الذين استسلموا لآلة البروباغندا الوحشية، والتي سوقت مظاهر القتل والدمار في دول الربيع العربي، لفرض أنظمتها على مجتمعات المنطقة. كما جرى في تونس ومصر وليبيا واليمن، حيث نجح «الإخوان المسلمون» في الوصول إلى السلطة بفضل هذه البروباغندا القوية والناجحة، المدعومة من رجال الدين. واصطدم الجميع بواقع الصمود العظيم في سوريا، الذي دفع وسائل الإعلام المذكورة لمزيد من الوقاحة الإعلامية، التي لا علاقة لها بما تسمى الموضوعية الإعلامية، التي درسناها في الجامعات أو تلك التي قالوها لنا في «بي بي سي»، حيث كانت هذه المحطة في مقدمة المحطات الأكثر وقاحة في تعاملها مع مجريات الأحداث في سوريا.
وكانت هذه المحطة ومعها «فرنسا ٢٤» وغيرها على سباق مع قناتي «الجزيرة» و«العربية»، اللتين كانتا على مستوى أصحابها الذين دفعوا لهاتين المحطتين، ومن ظهر على شاشاتهما، الملايين من الدولارات فقط لرفع «راية الجهاد» ضد الاسد «العلوي». وهو ما دفعها للتطبيل والتزمير لعصابات «الجهاد» التكفيري وعناصره الاجرامية، التي نُقلت من جميع أنحاء العالم إلى سوريا، وعبر حدودها مع تركيا.
وجاء اتصال المسؤولين الأتراك مع بداية «الربيع العربي» مع أصحاب جميع وسائل الإعلام الخاصة، وتحذيرها من استضافتي في أي برنامج حواري عن سوريا والربيع العربي ليثبت «إحترام هؤلاء المسؤولين لحرية التعبير»، أو كما يقال «الرأي والرأي الآخر» الذي لم تلتزم به أي محطة من محطات العالم، خلال حديثها عن سوريا إلا في اطار ضيق جداً، وفي حالات استثنائية.
وهو ما يثبت عدم اتصال «الجزيرة» و«العربية» و«البي بي سي»، أيضاً، معي طيلة سنوات «الربيع العربي»، حتى لا يسمع المشاهد العربي حقائق الموقف التركي الذي أعرفه جيداً. علماً أنني عملت في جميع هذه المحطات، ومحطات وصحف عربية ودولية أخرى، وتجاهلتني هي أيضاً، خلال السنوات الخمس الماضية، حتى لا أكشف أكاذيبها.
وكانت المأساة الأكثر دراماتيكية، ليس موقف الإعلام المعادي، بل فشل ما يسمى «الإعلام المقاوم»، في التصدي لهذه الهجمة الإستعمارية التي نجحت إلى حد كبير في إقناع الناس في كثير من الامور في ما يتعلق بـ«الربيع العربي»، وعلى نحو خاص سوريا.
وكان إعلامها، أيضاً، في أزمة مهنية، وأحيانا سياسية وفق مزاج المسؤولين فيها. وهو ما يفسّر عدم استضافة محطات التلفزيون الرسمية، في سوريا، لي طيلة السنوات الخمس الماضية. إلا لمرات قليلة وخلافاً للإذاعة التي كانت تريد أن تسمع عن أحداث تركيا، والتي كانت وما زالت مركز الأحداث الإقليمية الخاصة في سوريا. ويبدو أن البعض في الإعلام السوري لم يستوعبها، وفي وقتٍ لم يستطع فيه الإعلام المقاوم انتهاج سياسة إعلامية واضحة، وإن كان محسوباً على المقاومة أو على الأقل هو ليس مع الطرف الاخر.
فعلى سبيل المثال قناة «روسيا اليوم»، التي سعت كثيراً للظهور بمظهر الحياد والموضوعية في الأزمة السورية، اثبتت فشلها في هذا المجال، وخاصّة خلال الأزمة الروسية _ التركية. فقد استمرت في استضافة المحللين المقربين من الحكومة التركية، حتى يدافعوا عن وجهة نظر تركيا، وهو ما نجحوا فيه في كثير من الأحوال، وخصوصاً حين يكون «الرأي الآخر» ضعيفاً. وقد تدافع إدارة المحطة عن سياستها الإعلامية هذه بالقول إنها تريد أن تكون موضوعية. ولكن عليها أن تعلم بأنه ليس في تركيا أي محطة خاصّة كانت أو حكومية، تستضيف أي شخص يدافع عن وجهة نظر روسيا، بل وحتى إن حاول انتقاد سياسات الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، في موضوع التوتر مع موسكو.
كما عليها أن تعرف أن المحطات العربية الأخرى تستضيف باستمرار ألد أعداء روسيا، حتى يهاجموها في موضوع سوريا والمنطقة عموماً. كما أنها تستضيف باستمرار المتحدثين باسم المعارضة السورية الذين يطلّون يومياً على شاشة «روسيا اليوم» ليهاجموا الحكومة السورية، والرئيس الأسد بعبارات وأوصاف تطاول الرئيس بوتين، طالما أنه حليف للأسد. ربما من دون علم إدارة «روسيا اليوم». وعلى الأخيرة أن تعرف جيداً أن الكثيرين في العالم العربي يَرَوْن فيها قناة معادية للأسد، ولا فرق بينها وبين «الجزيرة» و«العربية» و«البي بي سي» إلا القليل، لعله هو انعدام الخبرة في المنطقة العربية.
وهو الوضع نفسه بالنسبة لقنوات مماثلة، غير محسوبة على الإعلام المعادي. ومن هذه القنوات مثلاً «العالم» و«الميادين» و«المنار».
وعلى الرغم من أن المنار أقل غرابةً في هذا الموضوع، إلا أن «العالم»، والأكثر منها «الميادين»، لم تتخذ موقفاً واضحاً وحاسماً وحازماً في موضوع الحرب الإعلامية، والتصدّي للإعلام المعادي، باسم الإعلام المقاوم. والأمثلة أيضاً من تركيا، حيث كانت «المنار» تستضيف (في بعض الأحيان)، والأكثر منها «العالم» ثم «الميادين»، المتحدثين باسم الحكومة التركية ليدافعوا عن أردوغان وسياساته الطائفية في سوريا والمنطقة، أو ليتحدثوا عن «سياساته الديموقراطية العظيمة على الصعيد الداخلي».
فعلى سبيل المثال طهران لا تريد أي مواجهة مباشرة مع أنقرة «ذات الحكم الإسلامي»، وحتى إن هاجمها الرئيس أردوغان، ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، أكثر من مرّة. فمنذ بداية الأزمة السورية اتهمت أنقرة طهران بدعم «الديكتاتور بشار الأسد»، وهو ما يفسّر تشجيع طهران المواطنين الإيرانيين على السياحة في تركيا لتعويض خسارتها من عدم مجيء السيّاح الروس!
ولا يختلف الوضع، تماماً، بالنسبة إلى المحطات الأخرى، التي تتحدث من دون معنى عن الموضوعية. ومن هذه المحطات «سكاي نيوز العربية»، التي تقول إنها ضد النظام «الإخواني الأردوغاني»، ولكنها لا تتردد يومياً في استضافة من يدافع عن سياسات هذا النظام، وخاصّة في سوريا، أو ضد روسيا وغيره من الأمور الإقليمية والدولية.
ويبقى السر في نجاح الإعلام المعادي هو في ضعف الإعلام المقاوم بجهل أو من دونه، أو بشكل مقصود أو غير مقصود. هذا بالطبع دون أن نتجاهل الإمكانات المالية الضخمة جداً، التي يملكها الإعلام المعادي، ومن يقف من ورائه من الملوك والأمراء والمشايخ وحلفائهم من الرؤساء والمسؤولين بكل مستوياتهم.
وقد اثبتت السنوات الخمس الماضية أنهم اتفقوا جميعاً في قضية واحدة، وهي خدمة إسرائيل. وذلك من خلال تدمير العراق ومصر وسوريا وليبيا واليمن ولبنان وتونس، ودون أن يعي الإعلام المقاوم أن هذه المعركة مصيرية والمواقف الوسطية لا ولن تنقذها من الفناء. ولأن التاريخ علّمنا دائماً أن من لا يفرض نفسه على الآخرين، سيقضي الآخرون عليه. كما هو الحال الآن في منع «العالم» و«المنار» و«الميادين» والمحطات السورية من البث من على الأقمار العربية.
ودون أن يكون هذا المنع هو الأول أو الأخير، في مسلسل العدوان على أي محطة مقاومة، فإن لم تكن هذه المحطة على مستوى المقاومة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فستكون كافية بالنسبة للقوى الإمبريالية والرجعية العربية، بكل المعايير السياسية والأخلاقية، حتى تستهدف أي صوت معارض ومقاوم. وأيّاً كان في الإعلام المرئي أو المسموع أو المكتوب، كما هو الحال في حرب آل سعود على جريدة «الأخبار»، وصحف المقاومة في لبنان، وأيّ كان في العالم العربي وعبر التهديد والتخويف والترهيب.