نهلة الشهالعاد المؤتمر العربي والدولي لدعم المقاومة الذي انعقد في بيروت آخر الأسبوع الماضي ليثير السؤال ذاته: كيف، حقاً، تُدعم المقاومة؟ إذ يشعر من كان ذلك موقفه أن الجواب المتوافر لا يفي بالغرض. نجح المؤتمر (ولعل الأصح أن يقال المهرجان، وليس في ذلك عيب ولا انتقاص) في جمع آلاف الأشخاص من كل أرجاء العالم العربي، فجاء كل من كان ذا صلة بالشأن المقاوم. وهذا وحده إنجاز، لأنه يثبت اتساع وجود هذا التيار، على شدة تنوعه، واختلاف انتماءات مكوِّنيه الفكرية.
ولكن الوجود بذاته لا يمكن أن يُستخدم برهاناً كافياً على الفعالية، ناهيك عن اعتباره برهاناً على إمكان التحقق. كما لا يمكن اعتبار أن إعلان الدعم والتأييد ــــ وإنْ بأعلى صوت ممكن، وبأكثر الكلام حماسة وقطعية ــــ للظواهر المسلحة من المقاومة هو كل ما يمكن للمقاومات السياسية والفكرية والثقافية أن تقدمه، أو أنه يلخص صلتها الضرورية بالأولى. فمثل هذين الافتراضين يعززان في الواقع مسلكاً كسولاً، يكتفي بالحد الأدنى من ممارسة السياسة. بينما يواجه الخيار المقاوم في منطقتنا، كما في العالم أجمع، مهمة هي أبعد ما تكون عن التبسيط، لأنه يقارع نُظْمة شاملة، متشابكة من جهة وشديدة الهيمنة من جهة ثانية. وهي على هذا وذاك تمتلك حججاً وأدوات في كل الميادين، وتدافع عن سيطرتها بكل الوسائل، من التسويق الإعلاني إلى الهجمات الإبادية. وليس هناك أخطر من الموقف الذي يهوِّن الأمر. وهو متعدد، أكثره شيوعاً أن يكتفى بإثارة اطمئنان الناس إلى قوة المقاومة (المسلحة)، ويُطلب منهم محضها ثقتهم، والسلام. وهكذا تُعطّل ــــ أو لا تُستحضر ولا تُحفَّز ــــ طاقات أخرى غير تلك التي يبذلها المقاتلون المسلحون. والعلامة الأشد وضوحاً على هذا هي مقدار التفارق المذهل بين تطور الجهاز العسكري والأمني لحزب الله مثلاً، وتخلف أجهزته السياسية والإعلامية والثقافية والفكرية إلخ. بل، في حقيقة الأمر، يخدم ذلك التعطيل تحرر الجهاز، بمعناه الضيق، (ونواته الحيوية هي العسكر والأمن)، من وطأة المساءلة العامة من جانب مناصريه. فإذا كانت المهمة المعينة لهؤلاء هي منح التأييد تصفيقاً ومنافحة، تصبح كل مساءلة أو نقد، أو حتى تطلب أو توقع، انتقاصاً من المهمة ونكوصاً عنها.
ويمهد اشتغال العلاقة على هذا النحو لسيادة فكرة أولى شديدة الرسوخ، عن ضرورة مراعاة «الأولوية» واحترامها. ويحل على رأس ذلك بالطبع العمل على إبراز قوة الطرف المقاوم وتماسكه. وكمثال أيضاً، يصبح من المحرج، إن لم يكن مما يوصم بالـ«مشبوه» في ظروف فلسطين وغزة خصوصاً، توجيه النقد لحماس على ممارساتها الاجتماعية الموغلة في القمعية بمختلف أشكالها. إذ يبدو الأمر ساعتها وكأنه تخل! ويوضع المرء أمام خيار إطلاقي: معنا أو ضدنا. وكل محاولة لإدخال تعقيد على هذه المعادلة تصبح في أحسن الأحوال تفلسفاً ثقافوياً متعالياً أو دليلاً على تذبذب لدى صاحبها. بينما الدعوة إلى اعتبار تعدد الأولويات وتداخلها، وإلى الانكباب على بلورة وابتداع معنى ذلك وتطبيقاته في الواقع (لأن ذلك وحده هو ما يمكنه أن يفي بضرورات مقارعة النظمة المهيمنة، الشديدة التعقيد هي نفسها)، فيُعامل أصحابها كمتحذلقين، ينطقون بكلام منمق أو نظري وحسب. يحدث هذا بينما يطرح الواقع علامات متوالية عن مشكلات سياسية عويصة تواجه حركات المقاومة كما هي قائمة في منطقتنا. ومصدر هذه الصعوبات ليس مخططات الأعداء فحسب، بل نواقص أداء تلك الحركات نفسها، مما يُفترض إمكان السعي لتجنبه أو تلافيه. وليس ذلك تفصيلاً ولا هامشاً، بل هو ينخر في الأساس.
أما ثاني الأفكار الشديدة الشيوع، فهي بخلاف الأولى، قد لا تجاهر بنفسها، ولكنها تقبع بقوة في تضاعيف المواقف والممارسات المعتمدة. إنها فكرة المخلِّص. وهي كثيرة الحضور وبخصوص ظواهر مختلفة. ولكنها هنا تلبس المقاومة (المسلحة، ما دامت هي الركيزة)، وقياداتها. وليس ذلك تشكيكاً في الكاريزمية والزعامة في منطقة هي مهبط الأنبياء، ولكنه تعيين لمقدار ما يحبس الناس في الانتظار، ومقدار ما يشتبه في طاقاتهم المبادرة حين تنطلق، مع ما يصاحبها بالضرورة من تنوع ومن تلمس ومن جموح غير منضبط بما يُفترض أنه «الصحيح».
تلك المرتكزات الفكرية للمقاومة ليست ثورية، بل هي تنتمي بنيوياً للنظْمة القائمة، وإنْ من موقع مختلف ومناقض لموقع فكرها المهيمن ومصالح قواه الاجتماعية. وقد يفسر ذلك التناقض المثير القائم، بين واقع أن تلك ولا شك حركات مقاومة، ولكنها في الوقت نفسه رجعية أو أقله محافظة، بل هي تتسم أحياناً بخصائص طائفية أو عشائرية الخ، يعاد إنتاجها وترسيخها أثناء الصراع الدائر، بما يتجاوز من بعيد مجرد حمل تلك الحركات أثر المعطيات الاجتماعية لبيئات نشأتها.
لعل الدينامية القادرة على وضع هذه الحركات، أو أجزاء منها على الأقل، أمام تحدي الحاجة لتجاوز تلك الأعطاب، مما يعني تطورها وارتقاءها، هو تمكّن من يقلقه حالها كما هو قائم مِن العمل وفق منهج «فكِّر كلياً واعمل محلياً»، واستنباط تطبيقاته، وأولها الانحياز إلى حلقات التواصل والنقاش المستمرة والصريحة، المتفحصة للواقع بلا تابوهات، على المهرجانات التي ستصبح خطاباتها، حين تنعقد، ونصوص الدعوات لها وبيانات اختتامها، أقل لفظية وعمومية وفواتاً!