لطيفة بوسعدن *لا تكف الحكايات تُنسج حول الشهيد المهدي بن بركة، وتظهر معها تصريحات وسيناريوهات جديدة، يضيف بعضها قيمة على التحقيق الذي يباشره منذ سنوات القاضي الفرنسي باتريك راماييل، ويزيد بعضها الآخر القضية لبساً وغموضاً، كالتصريحات التي أفصح عنها أخيراً جورج فلوري، وهو كوموندو سابق في البحرية الفرنسية. وتقول روايته إن جثة الزعيم السياسي المغربي لم تُدفن في مكان مجهول كما يعتقد الجميع، بل إنها أُحرقت مباشرة بعد اختطافه وتصفيته، وتمت العملية في منطقة تسمى «إسّون» بفرنسا. استند الراوي إلى تقرير سري قديم للدرك الفرنسي كان بحوزته منذ خمس وعشرين سنة، وعندما سُئل لماذا ظل صامتاً كل هذا الوقت وهو لديه وثائق مهمة بالنسبة للتحقيق، أجاب أنه كان يعتقد أن ملف المهدي قد أغلق. لكن من الذي أقنعه بعد مرور كل تلك السنوات بأن الملف لم يُغلق بعد، وأن عليه أن يقدم ما لديه من أوراق؟ سؤال بقي بلا ...طرح!
أطنان عديدة من الكتابات ومن التسجيلات الوثائقية والفنية، مئات من الوقفات التضامنية المطالبة بفك الحصار عن القضية والجثة. والحكاية وحيدة على اختلاف رواتها، وما إن تظهر فسحة أمل حتى تعود القضية لنقطة البدء! فهل كان مجرد سراب أن يصدر البوليس الدولي مذكرات اعتقال في حق أربعة مسؤولين مغاربة يشتبه في تورطهم في جريمة الاغتيال، لتتنفس الصعداء عائلة الشهيد ورفاقه والمتعاطفون معه والمهتمون بقضيته من حقوقيين وسياسيين، اعتقاداً منهم أن جزءاً مهماً من العراقيل سيُرفع أخيراً عن الملف الشائك وأن متورطين في تصفية المعارض سيمثلون أمام القضاء الفرنسي. ولكن قرار النيابة العامة في باريس سرعان ما أشعرهم بالإحباط بوقفه تنفيذ المذكرات، وكأن إرادة ما تحول دوماً دون اتخاذ التحقيق القضائي مساره الطبيعي.
جثة المهدي بن بركة لم تُدفن في مكان مجهول بل أُحرقت مباشرة بعد اختطافه وتصفيته
اغتيلت إذاً مذكرات الاعتقال بدعوى حاجة الأنتربول للمزيد من التحقيق في مسألة اعتقال هؤلاء الأشخاص. وكانوا هم أنفسهم الذين سبق أن أثارت أسماؤهم دوياً في المغرب بعد ظهورها منذ سنوات على لائحة من خمسة وأربعين اسماً اعتبرت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أن أصحابها من صنّاع الانتهاكات الجسيمة في الماضي، وبعثت بنسخة منها للبرلمان والحكومة. فما على القاضي الفرنسي، الشخص المزعج للسلطات المغربية، سوى الانتظار مرة أخرى عسى تستجيب وزارة العدل المغربية لطلبه بخصوص الإنابة القضائية، لتمكينه من استجواب الجنرال حسني بن سليمان قائد الدرك الملكي راهناً، والجنرال عبد الحق القادري المدير السابق للإدارة العامة للدراسات والمستندات، وكان يعمل حين اختطاف بن بركة ملحقاً عسكرياً بالسفارة المغربية بفرنسا، إضافة إلى عميلين سابقين في الاستخبارات المغربية لعبا دوراً أساسياً في تصفية المناضل. لكن من المؤكد أن أمر الإنابة القضائية ليس بيد هيئة القضاء المغربية. فالبت به يتجاوز صلاحيات وزير العدل، والملف شائك ومتشابك الخيوط. صحيح أن القضاء الفرنسي يتعثر بدوره، بينما الجريمة ارتُكبت على أرض فرنسا، ولكنه حقق رغم ذلك تطوراً في مسار التحقيق، وانتهى سنة 2004 برفع طابع السرية عن جزء كبير من الوثائق ذات الارتباط بالملف.
حكايات الجثة مؤلمة. لقد عُذبت جثة الشهيد... فهي تارة ذُوّبت في حوض من حمض الأسيد بعدما نقلت سراً من فرنسا صبيحة اليوم التالي للاغتيال، وقد تكون قد دُفنت على جانب نهر السين الفرنسي بالقرب من البيت الذي احتُجز فيه صاحبها واغتيل، وقد يكون الجثمان مدفوناً تحت مسجد في باريس، وقد تكون رأس الشهيد فصلت عن جسده وقدمت هدية للملك الراحل، أو تكون الجثة قد انتهت إلى المحرقة كما تقول أحدث الروايات. وإلى حين التأكد من حقيقة ما جرى، يبقى المهدي بن بركة اسماً لشارع جميل في الرباط، وتمر صوره ضمن برامج تلفزيونية، ويتنقل أبناؤه وزوجته نحو الوطن بكل حرية: مكاسب مهمة ربما، لدولة تعلن نفسها منخرطة في حقوق الإنسان. لكن أليس من حق الرفات العودة لحياة الأموات الطبيعية؟ أليس الزمن هو طي صفحة الماضي الأليم؟ من المؤكد أن ملف المهدي بن بركة سيظل يشوّش على تبعات طي صفحة الماضي، ملف سافر من أروقة الهيئة السابقة للإنصاف والمصالحة باتجاه المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، لكن النتيجة واحدة: الهيئة الأولى أوصت للثانية بأن تتابع التحقيق، والثانية تقول إنها تتعامل مع الموضوع في سياق حالات الاختفاء القسري... لكن «الجديد المستمر» ـــــ كما قال محامي عائلة المهدي بن بركة ـــــ في هذه القضية هو أنها لا تزال مفتوحة... على المستقبل.
وقد تظهر الرفات وتبقى الحقيقة معلقة. إلا أن التعرف على مصير الرجل أمر مهم لحفظ الذاكرة الوطنية، وهو يحتاج لإرادة سياسية قوية. فالراحل من أبرز رموز حركات التحرر الوطنية التي طالتها يد الاغتيال. وكان العديد من الدول يسعى لإخراس صوته بسبب حماسته الكبيرة لعقد مؤتمر القارات الثلاث. ومحلياً، كان إصداره وثيقة «الخيار الثوري بالمغرب» إفشالاً لمحاولة كان يشجعها القصر تجاه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بهدف إيجاد حكومة وحدة وطنية بشروط الملك الحسن الثاني. في التاسع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر من كل سنة، تنطلق الروايات وتبقى أشهراً بين قيل وقال، كما اليوم. فمتى تكون إحدى مناسبات الاحتفاء بذكرى الاختفاء مناسبة أخرى للإعلان عن المكان الذي ترقد فيه الجثة أو ما بقي منها؟
* صحافيّة مغربيّة