وائل عبد الفتاحمصر نشيطة. مكوك الجولات التقليدية يعمل بطاقته القصوى قبل سفر وزير خارجيتها ومدير الاستخبارات إلى واشنطن. زيارات وقمم وربيطات لإعلان موقف من عملية السلام. الكلمات المعتادة تخرج بالتصميم نفسه «جهود تحريك عملية السلام». الصور تكشف عن ثقل كاهل من يديرون المكوك من القاهرة وتعاستهم، سواء أهل البيت أو زوّاره، الأمير سعود الفيصل أو أبو مازن، حتى الملك الشاب عبد الله لم يقل وجهه غير المبالاة في مواجهة الهم المطلوب نسيانه.
نشاط محلّك سر، مقارنة بقرارات نتنياهو التصريح بمستوطنة وتوجيه سفراء إسرائيل في العالم إلى مزيد من القوة: «لماذا تتراجعون؟ تصرفوا من منطلق أننا أقوياء». هذه حسبة نشاط مختلف، وعلاقة بالقوة أو بمشروع بناء الدول مختلفة.
إسرائيل مذعورة على وجودها. وترسنت حدودها السياسية والدبلوماسية والعاطفية بكل ما يحميها. لا حركة ضد مشروع وجودها أو زرعها في قلب المنطقة العربية. الفاسد يفسد لكن بعيداً عن مركز الوجود، والقاتل يقتل من أجل وجود إسرائيل، والفاشي يمارس فاشيته ليستمر مشروع الوطن القومي.
«بيبي» لا ينعم برفاهية الحكام العرب كلهم، بمن فيهم الرئيس مبارك. هم جميعاً خالدون. لا شيء لشعوبهم سوى المنشطات، ومخزونها لا ينضب طبعاً.
مبارك أعلن قبل أيام تعديلاً وزارياً شمل وزيرين و٤ محافظين. الصحف المستقلة عن قبضة النظام وصفت التعديل بأنه «صدمة سياسية». الشعب انتظر مذبحة وزارية أو شعوراً حقيقياً بالتغيير. لكنّ الرئيس لعب بطريقته المعهودة وضيّق حدود التغيير إلى أضيق ما يمكن فعله.
الرئيس مبارك لا يخاف التغيير فقط بسبب العمر، لكنها إحدى عاداته الملهمة. وهذه المرة استقبل التعديل بالسخرية، والمرارة موازية لحجم الانتظار المأمول في تعديل تتحدث عنه الصحف وتتكهن بمحتواه منذ شهرين.
التعديل شمل وزير التعليم، الذي غادر الوزارة للحصول على تطعيم ضد أنفلونزا الخنازير ولم يعد إليها. آخر قرارات الوزير المقال كان إلغاء تدريس رواية «الأيام» لطه حسين بعد ضغط من مشايخ الأزهر، الذين أرادوا الانتقام من المثقف المنشق عن أزهريته والناقد الساخر من العقلية الأزهرية. نشاط المؤسسة الدينية الرسمية تركز في الانتقام من طه حسين، بينما يؤدي دوره المطلوب في الردّ على تكفير بناء الجدار الفولاذي.
التعديل لم يكن منشطاً. ولم يحدث الشعور بالتغيير. واستمر النظام ببناء الجدار الفولاذي بين رفح وغزة، وبمنع المواطنين من توكيل الدكتور محمد البرادعي لتعديل الدستور.
لماذا؟ لأنه لا صوت يعلو فوق صوت الاستمرار والخلود. معركة حياة أو موت. لا مجال فيها للخسارة. يستعيد النظام أراضيه كلها من المجتمع المدني (النقابات ونوادي التدريس والقضاة ومجالس إدارات الصحف..). الاستعادة استعداد لمعركة الرئاسة. الدفاع عن الوجود ولو كان ذلك تفجيراً للدولة وتحطيماً لأسوارها العالية.
يبدو النشاط إذاً تحت شعار «إما نحن وإما الجحيم للجميع». الفولاذ في رفح هو «عربون محبة»، كما يقول المصريون للرضى السامي في واشنطن السعيدة بالديموقراطية المصرية، كما جاء على لسان سفيرتها في القاهرة.
«واشنطن بوست» سخرت من أوصاف السفيرة، وقالت إنها أشادت بديموقراطية غير موجودة. الصحيفة أبدت دهشتها من تخلّي أوباما عن الديموقراطية في مصر ومن عدم وجود إشارات علنية إلى دعم دعوة البرادعي لانتخابات حرة وتنافسية.
الصحف الحكومية تسمي توكيلات البرادعي انقلاباً، لأنها تريد تعديل الدستور، وهو توحّد وتماه لم يقدر عليه سوى لويس الرابع عشر وهو يقول «أنا الدولة». لكنّ إمبراطور فرنسا كان يعرف أن الدولة موجودة، بينما في مصر نشاط الدولة ضد وجودها.
النظام يحاول أن تقدم عرابين متباينة للداخل. أعلن اليوم مشروع قانون في البرلمان بتجديد خلايا السوق الاقتصادي بملياري جنيه، وقبلها قدّم واحداً من أعمدته السابقين، وزير الإسكان الأسبق محمد إبراهيم سليمان، إلى التحقيق بتهم أقلها رشوة تتجاوز ٤ ملايين دولار .
عرابين الداخل ضد عرابين الخارج. غسيل السمعة والمنشطات الاقتصادية تسير في اتجاهات عكسية مع المواقف السياسية. والموافقة على مرور « شريان الحياة ٣» كان ثمنها إشادة غالوي بالموقف المصري من القضية الفلسطينية. وهذا سيضيع حتماً مع هدير مكوك نظام مبارك وحشرجاته العالية وإيقاعه التقليدي الذي لا يعرف أحد إلى أين يمضي بمصر وبالقضية.