Strong>طارق الدليمي *عام 2004، كتب الإعلاميُّ جون بيلغر، في كتابه لا تقل لي أكاذيب، أنه التقى فريقاً إعلاميّاً سوفياتيّاً في زمن الغلاسنوست كان يقوم بجولةٍ في الولايات المتحدة. وقد نقل إليه انطباعاً أنّ الصحافة الأميركيّة تلتزم بمواثيق الدولة أكثر ممّا يحدث في الاتحاد السوفياتيّ. وقد درس هذه الظاهرةَ نيكولاي لانين في كندا عام 2007، وكان ضابطاً إعلاميّاً في الجيش السوفياتي في أفغانستان، واستنتج أنّ تغطية الإعلام الأميركيّ المتعاون معه للحرب على العراق سنة 2003 كانت فضيحةً سياسيّةً قبل أن تكون جريمةً أخلاقيّة. ويركّز هذا الإعلاميُّ على موقف العناصر العراقيّة المعارضة لنظام صدّام حسين داخل أميركا وإنكلترا تحديداً، وكيف أنها انجرفتْ مع الأكاذيب الأميركيّة وراحت تردّدها ليلَ نهارَ من أجل التخلّص من الديكتاتوريّة، ولو كان الثمن هو احتلال العراق وتحطيمه. والطريف أنّ أحد الكتّاب العراقيين، وهو من جماعة فخري زنكنة، أورد في حديثٍ خاصّ هذه الانطباعات حين قارن عملَه السابقَ في وكالة نوفوستي بعمله الحاليّ في القسم الإعلاميّ لفضائيّة «الحرّة» الأميركيّة. والحقّ أنّ التمترسَ وراء روح «ثقافة الأجنبيّ»، ومشاعرَ الدونيّة، وعقدةَ الخواجا، هي التفسيرُ الأوّليُّ لانتقال عتاة الإعلام العراقيّ التابع لقيادة عزيز محمّد ـــــ فخري زنكنة من شكلهم السوفياتيّ السابق إلى شكلهم الأميركيّ الحاليّ.
تشير وقائعُ تاريخ الحزب الشيوعيّ العراقي إلى الحمّى العالية التي أصابت جسمَ المثقفين هناك
بيْد أنّ العامل السياسيّ هو المحفّزُ الرئيسُ لهذه الاستدارة الإعلاميّة ـــــ السياسيّة. ويضاف إلى ذلك العامل أنّ هذه النخب عملتْ فترةً طويلةً بانضباطيةٍ ذليلةٍ تحت رحمة السطوة الحزبيّة وقراراتها التعسفيّة. وعندما سنحتْ لها الفرصةُ بعد تفسّخ الحزب الشيوعيّ العراقيّ في بداية التسعينيّات، وتساوق ذلك مع أحداث الكويت، انفرط زمامُ ارتباطاتها التقليديّة. بل يمكن القولُ إنها أسهمتْ في تفعيل موقف التلاقي أوّلاً، والمتعاونِ لاحقاً، مع الخطّة الأميركيّة لحصار العراق، تمهيداً لغزوه واحتلاله.
تشير الوقائعُ المفصّلة لتاريخ الحزب الشيوعيّ في تلك المرحلة إلى الحمّى العالية التي أصابت جسمَ المثقفين هناك، وإلى تحوّلهم بيادقَ مأجورةً في أيدي الشركات الإعلاميّة المرتبطة بأجهزة المؤسّسة الأميركيّة وفروع نشاطاتها المختلفة. وقد استمرّ هذا «التعاونُ» على كلّ المستويات حتى الغزو والاحتلال وإلى الآن. وما الحملة الإعلاميّة التي تشنّها «مؤسّسةُ المدى» وجريدة المدى اليوميّة بخصوص «الاجتثاث» إلا جزءٌ من الخطّة الأميركيّة الاحتلاليّة، التي تعبِّر عن نفسها بما يسمّى «العمليّة السياسيّة». وتقود زعانفُ زنكنة حاليّاً حملة الاجتثاث لكلِّ مَن يقف في وجه ترشيح جلال الطالباني لرئاسة الدولة تحت سنابك الأجنبيّ.
إنّ التاريخ الإعلاميّ لفخري زنكنة يتساوى ويتكافل مع تاريخه السياسيّ منذ كان مشرفاً على جريدة طريق الشعب في السبعينيّات، وفي ذروة تحالف الحزب الشيوعيّ بقيادة عزيز محمّد وحزب البعث الحاكم بقيادة النائب صدّام حسين. ولا غرو أنّ هذا التحالف غير المقدَّس شُيّد على جماجم مئات المناضلين من كوادر الحركة الوطنيّة العراقيّة المعادية للديكتاتوريّة السابقة. وكان دورُ زنكنة والجماعة المتصلة به هو التسويق اليوميّ لجرائم النظام على أنها إنجازاتٌ تاريخيّةٌ في الطريق إلى بناء الاشتراكيّة في العراق. إنّ شعبنا لا ينسى أبدًا شخصيّاتٍ من نمط محمد الخضري ومتّى هندو وناجي العقابي وفؤاد الركابي وستّار خضير، فضلاً بالمئات الذين استُشهدوا تحت التعذيب أو بواسطة الاغتيالات في العراق وخارجه، من نمط المناضليْن عادل وصفي وتحسين الشيخلي. بل إنّ طريق الشعب كانت لها وظيفةٌ مركزيّةٌ في حثّ الشعب على محاربة «الجيْب العميل» في شمال العراق بقيادة الحركة الكرديّة عام 1975، أو على القتال المباشر ضدّ انتفاضة «خان النصّ» الشيعيّة لكونها حركةً «طائفيّةً رجعيّةً عفنة» تحرِّكها الأوساطُ الإيرانيّةُ والسعوديّة. والحقّ أنّ الحلقات الإعلاميّة (بقيادة زنكنة) التي كانت تنفّذ أغراضَ الديكتاتوريّة هذه هي نفسُها التي بادرتْ إلى استعمال الأساليب عينِها خارج العراق بعدما استنفدها النظامُ الديكتاتوريّ سياسيّاً وإعلاميّاً. وكانت أهدافُها الجديدة هي كلّ العناصر الوطنيّة والتقدميّة خارج الحزب أو داخله، من التي لا تنسجم مع خطّ الشلّة المركزيّ أو تناهض سلوكها السياسيّ أو الشخصيّ. ولمّا كانت هذه الشلّة قد خضعتْ في الشتات لقوانين التحالف غير المبدئيّة، ولأنها تنكّرتْ لكلّ قيم الحزب التاريخيّة المجيدة وهرولتْ وراء المصالح الضيّقة النرجسيّة للصفوة المستبدّة التي تتحكّم في مفاصل الحزب ونشاطاته، فإننا نجد أنها لم تختلفْ في ممارساتها عن أيّ سلطةٍ سياسيّةٍ طاغية.
تعلّمنا من خلال تجاربنا الشائكة ومن خلال الثقافة ومعاركها التاريخية المهمّة أنّ «القانونيّ» هو الغلافُ الحقيقيّ لـ«السياسيّ»
لقد حصلتْ أحداثٌ بشعة في الفترات السابقة، وكانت وقائعُ «بشت آشان» من أكثرها دمويّةً. وهناك تفاصيلُ مشينةٌ عن الدور المهمّ الذي قام به الاتحادُ الوطنيّ الكردستانيّ [...] في هذه الوقائع، والتهادن المخزي لقيادة عزيز محمّد ـــــ زنكنة في التعامل معها إلى الآن. وهذا ما يفسّر، في رأيي، الدعوى التي رفعها زنكنة على الكاتب القدير والناشر العروبيّ الديموقراطيّ سماح إدريس، واطّلعنا أخيراً على نتيجتها المؤسفة.
لقد تعلّمنا من خلال تجاربنا الشائكة، ومن خلال الثقافة ومعاركها التاريخية المهمّة، أنّ «القانونيّ» هو الغلافُ الحقيقيّ لـ«السياسيّ» في سياق النضال ضدّ انتهاكات الدولة وبطشها، وأنّ «السياسيّ» عنوانٌ فريدٌ لتعديل «القانونيّ». وها نحن قد وضعنا اليدَ على الحمض النوويّ للمسرحيّة التي افتعلها زنكنة في لبنان لمعاقبة إدريس لأنّه كان الأوضحَ والأنصعَ في فضح «العمليّة السياسيّة» التي يختفي وراءها زنكنة من أجل تحقيق مآربه الشخصيّة والسياسيّة. فلقد كانت «العمليّة السياسيّة» عام 2007 (زمنَ كتابة إدريس لافتتاحيّته الشهيرة في الآداب) في ذروة مأزقها، وكانت «الاندفاعة» هي الخطّة التي وضعتها إدارةُ بوش والجنرال بترايوس من أجل تطهير بغداد وقتل الآلاف وتشريد الملايين من سكّانها وتغيير طابعها الديموغرافيّ لتَسهل السيطرةُ عليها. ومن دون ذلك، بحسب كلمات سعد إسكندر، مسؤولِ الأرشيف العراقيّ، لا يمْكن حكمُ بغداد والعراق معاً.
من هنا أساند الزميل سماح إدريس، وأطلب فتح ملفّ هذه الأحداث من أجل الاستمرار بالدفاع عن الحريّة والعدالة لكلّ الشرفاء، وفي المقدّمة شعوبُنا المغدورةُ التي تكتوي بعذابات يوميّةٍ لا تصدَّق من قِبل حكّام الاحتلال والمتعاونين معه. وليكن مثلنا القول المأثور: «إنّ طواحينَ التاريخ تطحن ببطء، ولكنّ طحنها ناعمٌ ودقيق».
* سياسي وكاتب عراقي