استضافة لبنان لكارلوس سليم كشفت وجه لبنان الحقيقي، وكشفت ثقافته الشعبيّة كما هي. الدولة والمجتمع في مسخ الوطن يقدّسان الثروة والجاه. هؤلاء يطأطئون الرؤوس أمام كل حامل حقيبة نقود، حتى لو كانت النقود مزوّرة. جاء سليم إلى لبنان، وظنّوا أن الرجل حلّ مشاكلهم. عقدة النقص في القوميّة اللبنانيّة والهويّة الوطنيّة (المُتشكّلة حول صحن حمّص وحول شجرات أرز ندعو لها بقصر العمر) ناتئة. تحتاج إلى توكيد يومي لتصدّق نفسها. هي أزمة وجوديّة عميقة، ولن تحلّها حرب وحشيّة على نهر البارد لتوحيد الوطن
أسعد أبو خليل *
جاء كارلوس سليم إلى لبنان. وهبّ شعب لبنان لاستقباله. كلّ مشاكل لبنان باتت على أهبة الحلّ. الدين العام يقارب الثروة الإجماليّة للسيد سليم، كما أن نظريّاته في الرأسماليّة الاحتكاريّة التي أحسن تطبيقها في المكسيك تتماشى مع الاحتكاريّة الكامنة في برامج فقيد عائلته، رفيق الحريري. لم يعلم اللبنانيّون شيئاً، ولا يعلمون، عن كارلوس سليم وعن أصله وفصله. المهمّ أن والده وُلد في لبنان، وأنه ثري. والثراء سبب للعبادة في لبنان. تذكر بعض الأثرياء اليوم وتتساءل: هل يمكن أن يصل سعد الحريري أو ياسين جابر أو محمد الصفدي أو نجيب ميقاتي أو عصام فارس أو جيلبيرت زوين أو نعمة طعمة (الذي وعدنا هذا الأسبوع بأن آل سعود، بتمورهم ونفطهم، سيمنعون أي اعتداء إسرائيلي على لبنان، أي إن الحزم السعودي البارز إزاء الاعتداء الإسرائيلي على فلسطين سيظهر في لبنان). هل يمكن أن يصل هؤلاء إلى حد الطفر فنعرف مَن سيبقى إلى جانبهم؟ لو فقد سعد الحريري ثروته، فهل سيجد من سيضعه على قائمة انتخابيّة في زاوية من لبنان؟ الثراء مصدر احترام شعبي وسياسي في لبنان، ربما لأن اقتصاد لبنان بُني على التملّق لأثرياء الخليج ولجعل لبنان كما جعله رفيق الحريري مضيافاً أمام كل من يسعى لسياحة الدعارة والطعام على حدّ سواء. وعبادة الثروة والجاه جزء لا يتجزأ من دعاية الفكرة اللبنانيّة المُؤسِّسة. لبنان كان يُروّج له على أساس أنه نتاج إمبراطوريّة تاريخيّة ابتدعتها مخيّلة شاعر لبناني (سعيد عقل) وزاوجت موسيقى عاصي الرحباني ومسرحيّاته (نستطيع أن نضيف مسرحيّات لا يتذكّرها أحد لمنصور وأولاده وجيرانه). وفكرة الإمبراطوريّة تطلّبت ابتداع لبنان عالمي لا وجود له.
وفكرة لبنان المغترب والمُقيم (أي إن لبنان المُغترب يتفوّق على لبنان المقيم في الأولويّة) ومفهوم لبنان المُغترب (الذي ينتمي إليه افتراضاً كارلوس سليم وأنا) يعني أن هناك بلداً افتراضيًّا عالميًّا اسمه لبنان. لا بل إن المفهوم هو صنو لمفهوم «الحضارة اللبنانيّة» التي أطلقها سعيد عقل (الذي لا يعترف إلا بثلاث حضارات عالميّة فقط، وزحلة واحدة منها بسبب «البِردَوْني»). ولبنان المُغترب ضروري أيضاً بسبب يصعب شرحه من دون التطرّق إلى تاريخ الصراعات الطائفيّة وحاضرها في لبنان، لأن لبنان يريد أن يتجاوز هذه الصراعات ليقيم كما يريد ميشال سركيس سليمان مركزاً لحوار الحضارات: ويمكن إقامة ذلك المركز إما في بعل محسن أو باب التبّانة لحيويّة الموقعيْن. لنقل إن فكرة لبنان المُغترب ضروريّة لأن المسلمين «يلهيهم التكاثر» (بسبب الفقر تاريخيّاً، أي إن المؤسّسين للكيان المسخ، لبنان، أسهموا من دون أن يدروا في اختلال «الميزان الديموغرافي» لغير مصلحتهم وذلك عبر إهمال مناطق بحالها). والتغيير الجذري في موازين القوى الديموغرافيّة لمصلحة المسلمين أدّى إلى الاستعانة المُتخيّلة بلبنان «المغترب». وهنا، نسمع أرقاماً كوميديّة عن عدد اللبنانيّين في بلاد الاغتراب، وهي تراوح بين 15 مليوناً و20 مليوناً، وهناك من يزيد. وإذا لم يكف العدد يمكن أن نحتسب الأمة الفرنسيّة بسبب حنانها على لبنان كرديف ديموغرافي للبنان «المُغترب». لكن ليس هناك من يعطينا تفصيلاً لهذه الأرقام الخياليّة التي تزيد باستمرار في خطب فارس بويز والكتائب اللبنانيّة وفي عظات البطريرك صفير. وإذا استمرّ التناقص في نسبة عدد المسيحيّين في لبنان، يمكن أن يرفع البطريرك صفير وفارس بويز عدد سكان «لبنان المُغترب» إلى 50 مليوناً أو أكثر. لمَ لا؟ لبنان يرفض الإحصاء، المُغترب والمُقيم، حتى أن صفوفاً عن مادة الإحصاء في الجامعات الأميركيّة تدرج مثال لبنان كبلد يرفض بإباء وشمم إجراء إحصاء دقيق لسكّانه خوفاً من... الحقيقة (وهي غير حقيقة «مَن قتل» فقيد عائلته). وهذه الزيادة في تقدير سكان لبنان الاغترابي ضروريّة لسبب آخر: من أجل عدم تغيير المناصفة الواردة في الطائف. هي باقية ما بقي الكيان.
«الحلم اللبناني» يقوم على النفور من الوطن والترويج لفكرة النجاح الحتمي خارجه
وقدوم سليم إلى لبنان تزامن مع نشر مجلّة «فوربس» تقريرها عن أثرياء العالم، وجاء السيّد سليم في المرتبة الأولى. وكاد أن يُجنّ الوطن، وخصوصاً أن المراتب والجداول والسلالم تعني له الكثير. فالمطاعم والكتب والبشر مُصنّفون على طريقة التراتبيّة النازيّة، وهذا ليس صدفة لأن الفكرة المُؤسِّسة للكيان قريبة من الفكرة النازيّة والفكرة الصهيونيّة. لكن حماسة الوطن كان يجب أن تكون فاترة إذا قوّمنا بعض أثرياء لبنان. لنتذكّر أن ثروة سعد الحريري لم تأته بموهبة بعد. وهذا لا يعني أن الثروة لا توصل إلى السياسة والمناصب الرفيعة في بلد مثل لبنان. لكن هذه عاهة الديموقراطيّة في عصر التكنولوجيا والحملات الإعلانيّة السياسيّة على التلفزيون، وهي باهظة الأثمان. وهذا يتيح للأمير مقرن وللدول الغربيّة دعم مرشحيهم في انتخابات العالم العربي، كما أن الثروة تعطي المرشح أفضليّة من حيث القدرة على كسب ما يُسمّى في علم السلوك الانتخابي «معرفة الاسم»، أي قدرة الناخب والناخبة على تمييز اسم من غيره من الأسماء. وهذا يُعطي الممثلين في هوليوود أفضليّة في الترشيح لأنهم يتمتعون بهذه الميزة التي يُنفق الأثرياء النفيس لاكتسابها. لو لم يكن سعد الحريري يملك ثروة، فهل كنّا سمعنا به؟ هل لديه من الفضائل والخصائص والمواهب ما يعطيه إمكان البروز من دون ثروة؟ الجواب واضح. تنظر إلى محمد الصفدي: يجد صعوبة في الحديث عن أي موضوع، كما أنه كان يسأل مسؤول حملته الانتخابيّة الأول، عن اتفاق 17 أيّار، لأن هناك من سأله عنه ولم يستطع الإجابة (الشراكة مع تركي السديري تزيد الثروة لا القدرة العقليّة أو الثقافة العامّة). لم يسمع بها من قبل.
لكن مجيء كارلوس سليم تُوّج بمقابلة مع مارسيل غانم في برنامج «كلام (بعض) الناس». كال له مارسيل المديح، وكرّر أكثر من مرّة في المقابلة أنه يتشرّف بمقابلته. طفق في ترداد تشرّفه بلقائه. لم يُوضّح سبب التشريف. هل فقط لأنه غني؟ ولو قابل مارسيل لبنانيّاً فقيراً في المهجر، فهل كان تشرّف بمقابلته أيضاً؟ أم أن الشرف مقرون بالجلوس مع الأثرياء، مثلما سافر مرّة مارسيل للجلوس في يخت الأمير الوليد بن طلال (الذي يستحق جائزة خاصّة لما أحدثه من بشاعة وابتذال في الثقافة الفنيّة والشعبيّة في العالم العربي). لكنهم في لبنان يجعلون من بروز أي لبناني في أي ظرف في المهجر توكيداً على نظريّة العبقريّة اللبنانيّة، وعلى أهميّة الإلحاق الخيالي لـ«لبنان المهاجر» بـ«لبنان المقيم».
إن العقيدة المُؤسِّسة لمسخ الوطن، لبنان، تحتوي مثلها مثل الصهيونيّة على احتقار الآخر (العربي والمسلم في البداية، لكن تصنيفات طائفيّة ومذهبيّة استُحدثت في حقبة المدّ الحريري)، وعلى نشر فكرة ارتباط التفوّق اللبناني بتفوّق الرجل الأوروبي الأبيض (المزعوم، طبعاً). واحتضان الاستعمار الفرنسي للفكرة اللبنانيّة سمح لنخبة لبنان المُؤسِّسة بإيهام النفس بالانتماء إلى العنصر الأوروبي الأبيض. وكان هذا ضروريّاً من أجل نفي حاجة لبنان أو قدرته على الاندماج أو التوحّد مع جيرانه العرب. وأقنعت النخبة المارونيّة الحاكمة نفسها وغيرها بأنها أكثر بياضاً من سائر شعب لبنان، وأن انتشار اللغة الفرنسيّة في أوساط المسيحيّين قرّبهم أكثر من أوروبا، وزاد من نصاعة بشرتهم. إنها نخبة اقتنعت بأن اللبناني أوروبي تاه في الصحراء العربيّة، كما وصفهم مرّة مراسل لـ«النيويورك تايمز».
لكنّ هناك جانباً آخر لتكريم كارلوس سليم: هو نموذج لفكرة «الحلم الأميركي» لكن بصورة معكوسة. الحلم الأميركي، أو أسطورة الفكرة الجامعة على غرار فكرة «أسطورة المعادن» في جمهوريّة أفلاطون، تعتمد على إبراز استثناءات النجاح، وطمس الظلم في الاقتصاد السائد. النادر للترويج، والشائع للإخفاء. الدين والأمل الفارغ يحسّنان من وضع الشقاء، ويمنعان الثورة (مثل ذلك المثل الأعوج الذي ابتدعه الأثرياء في بلادنا لخداع الفقراء: «القناعة كنز لا يفنى» لا، يفنى في نصف نهار، أو أقلّ). تقول الفكرة إن أي شخص يستطيع أن يأتي إلى أميركا (وكأن الحدود مفتوحة) وبِجدّ ونجاح يستطيع أن يصبح ثريّاً. والثقافة الشعبيّة في أميركا (وقد درس بعضاً منها الفذ ثيودور أدورنو الذي كتب عن الأبراج وعن المسلسلات التلفزيونيّة) تكرّر نماذج من هذه الفكرة، حقيقيّة كانت أم مُختلقة. ويزيد هذا من أمل الفقراء في إمكان وصولهم إلى طبقة الأثرياء. لكن أكثريّة السكان تعمل بجدّ وكدّ من دون أن تستطيع أن تصل إلى مرتبة الأثرياء. «الحلم الأميركي» يُروّج له في الأفلام وكأن كل فرد أميركي يعيش في بيت منيف محاط بحديقة مسيّجة يحرسها كلب لطيف (أو شرس). وهذا الوهم يُبعد شبح الثورة وشبح الضيق من النظام الرأسمالي. عندنا في لبنان، نموذج معكوس.
فكرة «الحلم اللبناني» تقوم على النفور من الوطن وعلى الترويج لفكرة أن اللبناني إذا ترك وطنه المسخ وراءه فنجاحه حتمي. يردّد المقيمون مقولات مُضحكة عن فرادة اللبناني في الغربة، يقبر أمه. واللبناني ما إن يطأ أرض الغربة، حتى يصبح ثريّاً ويرسل أخباراً إلى الأهل عن مراقصته لنجوم هوليوود. والغريب أن وطناً يفخر قبل جولة من الحروب الأهليّة وبعدها بوطنيّة سكانه لا يرى كم أن الفكرة تناقض الوطنيّة وتعطي الأمل في العيش خارج لبنان: أي «نيّال من له مرقد عنزة في أي مكان إلا في لبنان.» لهذا، وكما أن الثقافة الشعبيّة في أميركا تروّج لاستثناء النجاح، لا لقاعدة القهر الطبقي، فإن الثقافة الشعبيّة اللبنانيّة مهووسة باستثناء النجاح للمغترب اللبناني، لا في قاعدة «التعتير» للبناني في أكثر من بلد في العالم. أي إن لبنان المغترب يستثني في حقيقة تعريفه غير الديموغرافي الفقراء من اللبنانيّين. أذكر أن والدي كان يحدّثنا عن قضائه سنة في «داكار» بعد تخرجه من جامعة القاهرة في الأربعينيات. سمع الكثير عن مغتربين جنوبيّين (وأقرباء) ممن رحلوا عن لبنان ولم يعودوا إليه. وكانت أخبارهم الواردة إلى قرى الجنوب اللبناني تتحدّث عن ثرائهم الفاحش وعن نفوذهم الهائل، وكيف أنهم لا يستطيعون العودة إلى الوطن الأم، ولو في زيارة قصيرة، لكثرة أعمالهم وثقل مشاغلهم. اكتشف والدي هناك أنهم لا يزورون لبنان لأن معظهم لا يملك ثمن تذكرة العودة. الثقافة الشعبيّة تتحدّث عن الأثرياء في الاغتراب فقط. لكن ما هو مغزى فكرة الحلم اللبناني؟ أي إن الأمل الوحيد يكمن في الرحيل عن الوطن، إلى غيره، مثلما فعل فقيد عائلته، رفيق الحريري في شبابه؟
ثم هناك جانب آخر برز في مقابلة مارسيل غانم. معظم المغتربين اللبنانيّين اختاروا أن يتخلّوا عن جنسيّتهم طوعاً، لا قسراً. إن قوانين «إعادة الجنسيّة» لا معنى لها لأن فقدان الجنسيّة كان بقرار. والغباء أن هناك من يظن أن حل «مشكلة الاختلال الطائفي» يكمن في إقناع المغترب المسيحي في ساو باولو بالاقتراع لفريد حبيب في لبنان. ماذا تقول عن وطن يظنّ بعض دعاته المتعصّبين أن حل مشاكله المستعصية يأتي عن طريق مشاركة من لم تطأ قدماه أرض لبنان منذ عقود. ويسأله غانم عن هوية سليم اللبنانيّة مفترضاً أنه يشعر بانتماء إلى لبنان، مع أنه كان واضحاً أنه مكسيكي ويعرّف عن نفسه بأنه مكسيكي مع أنه يذكر بعضاً من الكبّة في زيارته الأخيرة عام 1964. أجبروا الرجل على أن يكون لبنانيّاً بالقوّة مع أنه لا يذكر أصوله اللبنانيّة أبداً في مقابلاته خارج لبنان. يكفي اللبنانيّين فخراً أنه لا يعرف من اللغة العربيّة (أو «اللغا اللبنانيّي» التي بات فؤاد عبد الباسط السنيورة يتقنها جيّداً بعد خدماته في حقبة بوش) إلا الكلام النابي. ضحك مارسيل. يا لفخر الوطن. إذا لم يكن هذا دليلاً على تعلّق سليم بوطنه، فلا دليل آخر. ويسأله مارسيل عن تفاصيل السياسة اللبنانيّة مع أنه كان واضحاً أنه لا يكترث لها. ويسأله عن بعض من أفكاره لإصلاح لبنان. فيذكر الرجل كلاماً عن ضرورة الحفاظ على الأمن وعلى وحدة اللبنانيّين. تكفي هذه الكلمات. لم يعلم الشعب اللبناني أن الأمن والوحدة ضروريان من أجل الازدهار، إلا بعدما نصحهم بذلك أغنى رجل في العالم. وعندما أدلى سليم بنصحائه، كان مارسيل ينصت صامتاً كمن اكتشف للمرّة الأولى سرّ الميتافيزيق الذي قيل إن عاصي الرحباني كان يبحث عنه.
أما جزّين، فقد جنّت. خرجت عن بكرة أبيها لتستقبل من لا يعرف عنها وعن لبنان شيئاً، أي شيء. ظنّوا أن أكبر أثرياء العالم سيشتري جزّين برمّتها وسيوزّع الليرات الذهبيّة على السكان. خرجوا واستقبلوه بالطبل والزمر والسيف والترس، وعُقدت حلقات الدبكة أمامه وهو بادي الضيق. لم يرحموا الزائر الثري في جزّين. من الأكيد أن هناك من لاحظ أن الدّين اللبناني العام يساوي ثروة سليم. وأُعدَّ استقبال حافل له هناك: قال بضع كلمات، حوّلها المُترجم المواظب إلى خطبة عصماء كادت أن تعد بنثر الدولارات فوق رؤوس الحشد العظيم. الرجل بدا مهذّباً وإن مشدوهاً بعض الشيء. ماذا يريدون منه؟ لم يفصحوا. واحد من جهابذة الصحافيّين سأله ببساطة إذا كان سيقترع في الانتخابات البلديّة، مع أنه لا يحمل الجنسيّة اللبنانيّة.
أما النائبان إيلي كيروز وستريدا جعجع فقد أوردا إنجازاتهما النيابيّة في رسالة إلى «الأخبار» وفيها: «وطالما أن السيد كارلوس سليم يزور لبنان، فمن المفيد التذكير بأن النائبين جعجع وكيروز قصدا المكسيك خصيصاً، حيث اجتمعا به طويلاً، وطرحا عليه صراحةً المساهمة في دعم المشاريع الإنمائية والسياحية في منطقة بشري». أي إن محاولة «الشحادة» من كارلوس سليم أصبحت ترد في السير الذاتيّة لنواب مسخ الوطن. وذكرت بعض الصحف أن زيارة سليم كانت بمبادرة من البطريرك الماروني الذي أراد أن يُقنعه (على ما قرأنا) بإمكان شراء أراضي المسيحيّين حتى لا تقع في أيدي المسلمين (لا أستطيع الجزم بصحّة الخبر مع أن توجّهاته لا تختلف عن أفكار من دعا في 2005 إلى حصر تصويت المسلمين بالمرشحين المسلمين وحصر تصويت المسيحيّين بالمرشحين المسيحيّين). لكن سليم خيّب آمالهم إلى الآن. جاء الرجل من أجل كأس من العرق وليعرّف أحفاده على قبر جدّهم فظنّت ستريدا أن فرج القوّات آت، وظنّ أمين الجميّل أن مال سليم سيعيد مجد الكتائب اللبنانيّة (التي لم تكن يوماً في خدمة لبنان مع أنها أدت خدمات جليّة لإسرائيل)، وظنّ البطريرك أن سليم سيشتري مجداً إضافيّاً للبنان.
لماذا يحتاج لبنان إلى هذا القدر من مديح الذات؟ أليس هذا تعبيراً عن شك ذاتي وجودي لا حلّ له؟
إن الاحتفاء بأثرياء المغتربين مهين للمقيمين، من الفقراء والسواد الأعظم من الشعب. الحديث عن طموحات سياسيّة أو أدوار لسليم مناقض لفكرة ديموقراطيّة التمثيل. يأتي عصام فارس بأمواله ليصبح زعيماً: يصدح بالخطاب القومي العربي المُوالي لسوريا في لبنان، وهو (من خلال التبرّعات الانتخابيّة) في أميركا يؤيّد حملات بوش الانتخابيّة. لماذا هذا الاحتفاء المُبالغ فيه بالأثرياء من المُغتربين، وليس بالسواد الأعظم من المُغتربين والمُغتربات؟ ثم غير الأثرياء هم الأكثر إفادة ومساعدة إذا احتاج الوطن المُقيم إلى سواعد في حروب أهليّة مقبلة. هؤلاء يمكن الاستعانة بهم في القتل والقنص، لو أراد زعماء الميليشيات. ويتعامل لبنان المُقيم مع الاغتراب على أساس أن اللبناني بمجرّد مغادرته أرض الوطن ينتج ثروة وعبقريّة. ونظريّة العبقريّة اللبنانيّة تتناسى أنه مثل كل الشعوب المهاجرة، هناك من يبرز وهناك من لا يبرز، لكن العنصريّة الكامنة في الثفافة الشعبيّة والسياسيّة اللبنانيّة تعزو إلى اللبناني (لا اللبنانيّة طبعاً لأن ثقافة مسخ الوطن تحتقر المرأة وتفتخر باحتقارها) ما تعزوه عقيدة التفوّق البيضاء من مواهب إلى الرجل الأبيض.
ويجهدون في لبنان، وخصوصاً في جريدة «النهار» ومحطة القوّات اللبنانيّة (المُنشقّة)، «إل.بي.سي»، للزهو كلما برز اسم لبناني في الغرب، حتى لو كان لبنانيّاً بارزاً في «كان» بسبب تملّكه شبكات دعارة واسعة لإشباع رغبات أمراء النفط، أو لبنانيّاً اشتهر في لندن في السبعينيات بسبب تخصّصه في إشباع ملذّات الأمير فهد (يومها) وإخوته، أو سام زاخم الذي استغلّ منصبه الدبلوماسي الأميركي لعقد صفقات مع أمراء خليجيّين. ونذكر قضيّة عبد الله بوكرم، الذي لم يستمرّ في منصب الرئاسة في الإكوادور إلا لستة أشهر. زفّت الصحافة اللبنانيّة خبر تبوّئه المنصب، وطار طلال أرسلان إلى الإكوادور ليهنّئ بوكرم، مع أن الأخير لم يستمرّ في المنصب إلا ستة أشهر وذلك بسبب... جنونه (وكان لقبه بالإسبانيّة، «لوكو»).
تغطية زيارة سليم كانت غريبة بعض الشيء. وجريدة «السفير» (الذكيّة عادة خلافاً لجريدة «النهار») أوردت خبراً مفاده أن الضيف الغالي وجد تطوّراً في لبنان منذ آخر زيارة. لكن آخر زيارة لسليم كانت عام 1964. هل هناك بلد لا يتطوّر على امتداد أكثر من أربعة عقود؟ وكيف يمكن ألا يتطوّر البلد في كل تلك المدّة؟ ربما كان يجب أن يُصطحب سليم إلى مواقع الحرب الأهليّة كي يرى بأم العين مدى تطور وسائل القتل الوحشيّة عند اللبنانيّين في صراعاتهم الأهليّة. لماذا يحتاج لبنان إلى هذا القدر من مديح الذات؟ أليس هذا تعبيراً عن شك ذاتي وجودي لا حلّ له؟ ولماذا لا يُعاد النظر في فكرة «نهائيّة الوطن»؟ هذا الوطن هو خطوة أولى نحو ما هو أفضل، أو نحو ما لا يمكن أن يكون أسوأ، أو على هذا القدر من السوء.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)