علاء اللامي*لم يكن أوباما يتنبّأ أو يستشرف المستقبل حين وجّه خطابه إلى العراقيين قبل أن يجفّ الحبر البنفسجي على أصابعهم من أن أياماً صعبة ستكون بانتظارهم، بل كان يحذّر ويهدد. هذه الأيام الصعبة ما كان لها أن تبدأ أصلاً لو أن البلد كان كامل السيادة، تدور فيه عملية انتخابية ديموقراطية عادية وشفافة تمتاز بدقة التنظيم والاحتراف المؤسساتي. غير أن وجود حوالى مئة وخمسين ألف عسكري من قوات احتلال تابعة للدولة الإمبريالية الأولى في العالم على أرضه يغيّر الوضع الجيوبوليتيكي تغييراً كلياً وعميقاً.
في عهد أوباما تقرر، أو تصادف، أن تكون خاتمة مغامرة المحافظين الجدد باحتلال العراق وتدميره، وهي ليست مغامرة، أو مصادفة سائبة أو فالتة من شروطها التاريخية، بل كانت مخططاً مرسوماً بدقة. ومع تراكم الانطباعات الإنشائية التي سادت بعد فوز أوباما، والتي ولدها وأعطاها بريقاً خاصاً خطابُه الانتخابي السلامي، وجد البعض فرصة لتأمل وترقب انسحاب أميركي «آمن» وفي رواية أخرى «مسؤول» من العراق، وكأن الولايات المتحدة قررت أخيراً الانسحاب من دون قيد أو شرط كأي جمعية خيرية جاءت لتوزيع المساعدات الغذائية على العراقيين الجياع، أو كأنها هزمت هزيمة نكراء كما حدث على أرض فيتنام حيث هرب عسكريوها بالحوامات والطائرات العمودية من على سقف سفارتها المشتعل هناك. الواقع هو أن المشروع الأميركي انتكس في العراق انتكاسة كبيرة بفعل المقاومة العراقية قبل أن يدمّرها تنظيم «القاعدة» والاحتلال. لكنه لم يهزم تماماً كمشروع سياسي احتلالي، وبين الهزيمة والانتكاسة بون شاسع، وعلى هذا، كان من الضروري أميركياً التفكير بآليات جديدة لتعويم مشروع الاحتلال وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فوضعت موضع التطبيق فكرةُ النظام العراقي الموالي والسائر في الفلك الأميركي بعد ربطه بسلسلة من معاهدات واتفاقيات سياسية واقتصادية وأمنية لا يمكن الفكاك منها إلا بعملية كسر عظم مع الاحتلال غير المباشر ذاته. ولكن، ماذا لو فشلت هذه الخطة الجديدة لتعويم الاحتلال وإنقاذ المشروع الأميركي، أو على الأقل استرداد ثمن آلاف الجثث الأميركية التي سقطت على أرض العراق؟ هنا سيكون خيار الصوملة جاهزاً! حينها سيجري إحراق العراق أو ما بقي منه تماماً فلا تقوم له قائمة بعد ذلك، كما حدث للصومال بالضبط. ساسة وفرقاء العملية السياسية الاحتلالية المتصارعون على المقاعد البرلمانية والحقائب الوزارية سيقومون بدور لاقطي الجمر تمهيداً للحريق. هم دخلوا العملية السياسية الاحتلالية مروبصين ومغمضي العيون، بعدما صدّقوا بأنهم ساسة، وأن العملية السياسية التي يساهمون فيها هي الحل الوحيد الممكن، وهكذا وصلوا، أو لنقل أوصلوا أنفسهم وبلادهم وشعبهم، إلى «أيام أوباما الصعبة» حيث الشعار يقول: إما أن يكون العراق مستعمرة أو تابعاً يدور في الفلك الأميركي، وإلا فسنترك ساسته وقادة ميليشياته الطائفية والعرقية يحرقونه ويدمرونه بأيديهم!
وعرضاً نقول إن جميع الأحزاب العراقية القائمة اليوم والمشاركة في العملية السياسية وحتى أغلب تلك التي لا تشارك فيها هي ميليشيات حقيقية مطليّة بطلاء حزبي أو ديني طائفي فاقع. واليوم وقد بلغ التوتر أشده بعد الاتهامات والتهديدات المتبادلة بين أطراف العملية السياسية الاحتلالية، أليس من حق الناس أن يتساءلوا:
ـــــ لماذا هذا الإصرار على عملية سياسية خاطئة أوجدها الاحتلال وأغرقت البلد في الحرب الأهلية، وبالكاد خرج منها ليجد نفسه ثانية على عتبتها؟
ـــــ وإذا كان حصول قائمة المالكي أو علاوي على المرتبة الأولى في نتائج التصويت لا يعني تمكّن الحاصل عليها من تأليف الحكومة منفرداً، وهذا هو الواقع الذي يفرضه التصميم الأميركي الخبيث لحكم المحاصصة الطائفية العرقية من جهة، وموازين القوى الفعلية التي أنجبها ذلك القالب أو التصميم من جهة أخرى، أفلا يمكن اللجوء إلى آليات العملية نفسها وتشكيل تحالفات حاكمة لضمان إخراج البلد من المأزق الحالي بدلاً من التهديد بإشعال حريق لا يبقي ولا يذر؟
ـــــ ثم أين كان قادة هذه القائمة الانتخابية أو تلك طوال أسبوعين من حكاية الاتهامات بالتزوير ليهبوا فجأة مع اقتراب إعلان النتائج النهائية ويهددوا بالويل والثبور؟ وإذا كان الخبراء المستقلون في تقنيات الحواسيب الحديثة قد أكدوا أن إمكان اختراق أنظمة وحاسبات المفوضية العليا للانتخابات واردة عملياً ويسيرة جداً، فلماذا لم يجر الاتفاق منذ البدء على اعتماد أساليب العدّ والفرز الأوّلي التي عادت لتأخذ بهما دول أوروبية عدة رفضت الأخذ بطرق العد بواسطة الحاسبات الإلكترونية، وآخر تلك الدول هي هولندا؟

المشروع الأميركي لم يهزم تماماً كمشروع سياسي احتلالي، وبين الهزيمة والانتكاسة بون شاسع

ـــــ ولماذا هذا الإصرار من الطرف الآخر «قائمة علاوي» على رفض تطبيق طريقة الفرز والعد اليدوي واعتبار الحكم الحالي منتهياً، كما قال الناطق الرسمي باسم هذه القائمة السيد حيدر الملا، الذي دأب خلال إطلالاته التفلزيونية من العاصمة الأردنية عمان على وصف رئيس الوزراء الحالي السيد نوري المالكي برئيس الوزراء السابق، وكأنه في عجلة من أمره ليتولاها السيد علاوي؟ لماذا هذا الإصرار على رفض العد والفرز اليدوي إذاً كحلٍ أخير يمكن أن يتفادى بواسطته العراق كارثة اقتتال جسيمة من جديد؟
ـــــ وإذا حدث وحصل تفادي كارثة الاقتتال الوشيكة، فمن سيضمن تفادي غيرها مستقبلاً، ما دام الاحتلال المباشر متشبثاً بتلابيب العراق، أو تحوّل إلى احتلال غير مباشر تديره حكومة صديقة وموالية لدولة الاحتلال، قائمة على الأسس والمرتكزات الطائفية والعرقية ذاتها، حتى وإن كان يقودها سياسي يوصف بالعلماني كالسيد علاوي وتربطه علاقات وثيقة وعريقة بالاستخبارات المركزية الأميركية، كما كرر أخيراً الباحث الأميركي المتخصص مايكل روبن من معهد «أميركان إنتربرايس إنستيتيوت»؟
إن الدعوات إلى ضبط النفس والتصرف بحكمة والبحث عن حلول وسط رغم النيات الطيبة التي تستند إليها، والمعاني الإنسانية التي تستبطنها، لا تغني عن البحث عن الحل الجوهري والواقعي لإخراج العراق والعراقيين مما هم فيه اليوم. ولن يكون ذلك الحل ممكناً وشافياً، إلا بالقطع مع الاحتلال وسياساته وتصميماته للحكم والمطالبة برحيله الفوري وإطلاق عملية مصالحة اجتماعية وسياسية بين القوى الاستقلالية المناهضة للاحتلال وللتجربة الدكتاتورية السابقة في الحكم معاً.
* كاتب عراقي