بهاء أبو كروم * أكثر من ملاحظة تستدعي التوقف عندها وردت في الموضوع الذي نشرته جريدة «الأخبار» بعنوان «جنبلاط ودمشق: حدود العلاقة والدور» للكاتب السوري ورد كاسوحة بتاريخ 4 آذار 2010. والواقع أنه بقدر ما تضمنت هذه المقالة من حقائق ومعطيات تحلّت بالواقعية والموضوعية، فإنها في المقابل قدّمت صورة غير واقعية لجزء لا بأس به من الوقائع. ومع أننا لسنا في وارد تحليل خلفيات النص، لأننا نحترم الآراء ونجلّها ونحن الذين دفعنا وندفع ضريبة الحرية في الرأي والكتابة والعمل السياسي، إلا أننا ملزمون بتوضيح بعض الأمور، وذلك من باب إظهار الحقائق ليس إلا.
إن التعاطي مع حالة الخصوصية التي يمثلها وليد جنبلاط في لبنان ليست مسألة طارئة على كل من يتعاطى بالشأن العام داخل لبنان وخارجه. وكما أن لوليد جنبلاط موقعاً في طائفته، زعامة كانت أو قيادة، كذلك فإن له موقعاً في الواقع السياسي المحلي والعربي، فلا هذه مِنّة من هذا ولا تلك هبة من ذلك. وبقدر ما قد يحرص وليد جنبلاط على زعامته للدروز، على النحو الذي أراد الكاتب إظهاره، بالقدر ذاته وأكثر يحرص الدروز على زعامة وليد جنبلاط أو قيادته لهم. ولقد أعطوه في الانتخابات النيابية الأخيرة أكثر من 80% من أصواتهم، رغم أنه لا يدخل في منافسة مع الزعامات الأخرى داخل الطائفة، لا بل يُؤخذ عليه أحياناً كثيرة أنه يعطي من رصيده لمنافسيه. وفي الواقع الوطني والعربي، يرأس وليد جنبلاط حزباً له جذور فكرية ووجهة نظر في الحياة على إطلاقها، ولها فلسفة وسياسة وعلاقات ثقافية تمتد إلى قارات العالم وتشبك مع ثقافتها ومؤسساتها المدنية وتنقل معاناة شعبنا الفلسطيني والعربي إلى أعرق المنابر والصروح العالمية. وكل هذا جرى بجهد كمال جنبلاط ورفاقه، ثم وليد جنبلاط ورفاقه أيضاً. ولا نعتقد أننا بحاجة إلى القول إن المكانة التي يشغلها وليد جنبلاط هي محط متابعة واهتمام، ليس لأنها هامشية أو مُلحقة بمراكز قوى أو تخضع لحسابات طائفية ومذهبية، بل لأنها فاعِلة ومُبادِرة في المدى الزمني ومُحتضنة من فئات شعبية واسعة لا يقتصر حضورها على منطقة أو فئة بعينها. والنتيجة أن مركزية هذا الموقع التبست على الكاتب، ما قاده إلى القفز فوق كثير من الحقائق والتضحيات.
التوريث لا يقتصر على العائلة الجنبلاطية، بل هو ظاهرة عامة في المنطقة والشرق
لقد بدت التحولات السياسية التي شهدتها السنوات الخمس الماضية كأنها انحراف عن سير التطورات التي حكمت لبنان منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. والواقع هو أن الخلاف الذي نشأ على خلفية قرار التمديد لإميل لحود وتجاهُل إرادة فئة كبيرة من اللبنانيين، إنما كان خلافاً سياسياً عبّر عن الحاجة إلى تصويب العلاقة اللبنانية السورية وتطويرها وفقاً للقواعد التي أرساها اتفاق الطائف، ولم يكن خلافاً عقائدياً أو مبنياً على أساس الموقع الذي نشغله في الصراع العربي الإسرائيلي. وقد حصل أن فصل وليد جنبلاط بين هذين المعطيين في أكثر من محطة، حيث أكد رفضه قيام برلمان لبناني معادٍ لسوريا ورفضه مجيء رئيس للجمهورية يخاصم سوريا، وطرح مبادرات للتسوية السياسية على أساس الرجوع عن قرار التمديد، وأكد رفضه القرار 1559 وحل موضوع سلاح حزب الله من خلال الحوار الوطني. فالعمق السوري الضروري لتحصين لبنان في مواجهة العدو الإسرائيلي هو ثابتة أكدها جنبلاط بذهابه إلى دمشق بعد أربعين يوماً من استشهاد والده. لكن هذه الثابتة لا تلغي بأي شكل من الأشكال هامش الحرية في الحركة السياسية الداخلية التي تزيد لبنان مناعة إذا ما احتُرمت قواعدها، ولا تفقده موقعه في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، ولا سيّما أن إصرار وليد جنبلاط خلال أشد المراحل صعوبة على عدم حياد لبنان في هذا الصراع يدحض بما لا يقبل التأويل أي كلام عن انتسابنا إلى محور أميركي ـــــ إسرائيلي ـــــ عربي على النحو الذي يطرحه كاتب المقال.
لقد أدت الطائفة الدرزية في لبنان والمنطقة دوراً طليعياً في محاربة الانتداب والاستعمار، وهذا الدور يعكس الانتماء والهوية الراسخة لدى الدروز وقياداتهم، ولسنا في صدد الانجرار إلى تبيان الحقائق والدلائل، لكن هذا المسار الثابت لا يتعلق ولا يتأثر بحجم الدروز الديموغرافي، بل يعكس اقتناعاتهم التاريخية ونضالهم في هذا السياق. وهذا هو الدافع القومي الذي حرّك وليد جنبلاط باتجاه دروز فلسطين، وذلك لتأكيد هويتهم وانتمائهم، بعدما حاول الاحتلال الإسرائيلي سلخهم عن قوميتهم وهويتهم العربية.
الكلام على وضع حراك جنبلاط وتموضعه في إطار الزعامة الطائفية المهجوس بـ«خيار البقاء» والتوريث السياسي هو ضرب من الافتراء لا أكثر، وخاصة أن التوريث ـــــ إذا صح ـــــ لا يقتصر على العائلة الجنبلاطية في لبنان أو على اللبنانيين فقط، بل هو ظاهرة تأخذ مكانها عند معظم المتعاطين بالسياسة في المنطقة والشرق. وفي حالة جنبلاط، فهي تخضع لحسابات ذاتية تتعلق بالعائلة والطائفة والتقاليد ولا ترتبط بالموقف السياسي لأن الدروز يريدون دولة مستقلة وهوية عربية، ويريدون علاقات جيدة مع سوريا وكل الدول العربية، وذلك بمعزل عمّن يكون زعيماً للطائفة.
* عضو مجلس قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي