سعد الله مزرعاني *أخيراً سيذهب السيّد وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي و«اللقاء النيابي الديموقراطي» إلى دمشق. كان جنبلاط قد تصدّر المواجهة مع القيادة السورية. وكانت تلك المواجهة ذات أسباب إقليمية ودولية بقدر ما كانت، أو أكثر ممّا كانت، محلية، أي محصورة ما بين قوى لبنانية والسلطة السورية.
لا داعي إلى التذكير بتلك اللحظات المتوترة والملتهبة والمحمّلة بأقسى التعابير والنعوت والاتهامات. فكلّ ذلك، وحتى بتفاصيله البسيطة، ما زال ماثلاً في أذهان كلّ اللبنانيين من دون استثناء. لكن ما يجب إبرازه في مجرى تحوّلات تتسارع يوماً بعد يوم، أنّ المرحلة كانت مرحلة صراع ضارٍ على مستوى المنطقة. وهذا الصراع أجّجه ودفعه إلى الذروة الاحتلال الأميركي للعراق، ومن ثمّ الغزو الإسرائيلي للبنان في كنف المشروع الأميركي الذي استهدف الشرق الأوسط برمّته أيضاً. لقد نال لبنان بعد العراق الشقيق والمنكوب طبعاً، حصّة مخيفة من الغزو الأميركي لبلاد الرافدين وللمنطقة. لكنّ ذلك لم يكن ليحصل، وعلى هذا النحو المتوتّر والمدمّر، لو لم يكن الجسم اللبناني «لبّيساً». فاستغلال تناقضات الوضع اللبناني لخدمة أغراض خارجية، وكذلك جنوح الأطراف اللبنانية المتصارعة ونزوعها إلى الاستقواء بالخارج، هما من مميّزات اللعبة التقليدية التي يجسّدها ويغذّيها في آن واحد النظام السياسي الطائفي اللبناني، والتي يتبارى أطراف هذا النظام في ممارستها وفي إجادتها وفي إدمانها، جيلاً بعد جيل.
لا يمكن فصل «عودة» جنبلاط الراهنة إلى دمشق عن «مغادرته» قبل حوالى ست سنوات إلى واشنطن. فالابتعاد عن دمشق، ومن ثمّ الانخراط في صراع غير مسبوق في مضمونه وفي شكله مع قيادتها ومع سياستها، كان وجهه الآخر، الاقتراب من واشنطن إلى حدود بات فيها «وولفوفيتز» أو «فيلتمان» أو سواهما، بدائل «يومية» لعبد الحليم خدّام وحكمت الشهابي وغازي كنعان... مع فارق بسيط هو ما يتناول الكنية فحسب، حيث «الأبوات» لا تُستخدم في واشنطن أو الغرب، فيما هي شديدة الرواج سورياً وفلسطينياً ولبنانياً...
هذا الجانب الخطير والمهم في تقارب الأستاذ وليد جنبلاط مع القيادة السورية وتباعده عنها، لا يتحدّث عنه أحد في سياق تناول علاقة جنبلاط بدمشق، وموعد زيارته إليها، ولقائه مع الرئيس السوري بشار الأسد فيها. لا ننكر أنّ ثمّة تناولاً للتحوّلات السياسية المهمة التي طرأت على مواقف رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي. لكن نادراً ما يتحدّث أحد عن موقع هذه التحوّلات في اللعبة التقليدية للاستدراج أو للاستقواء، التي يمارسها أطراف أو أقطاب النظام السياسي الطائفي اللبناني، سعياً إلى كسب موقع أو الحفاظ عليه ضمن الصراع الدائر والدائم ما بين ممثلي الفريق السياسي الحاكم. كذلك لا أحد يتناول تناولاً واضحاً، ارتباط عملية الاستقواء بالخارج، بالصراع الإقليمي والدولي، الذي كانت منطقة الشرق الأوسط ولا تزال ساحته الأساسية. فهذا الصراع قد استدرج أعظم المراهنات، وغذّى أكبر الأماني، بشأن قدرته على إحداث تحوّلات حاسمة في موازين القوى في المنطقة عموماً، وفي لبنان خصوصاً، وذلك لمصلحة الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وفي لبنان، من العرب، ومن غير العرب!
لا يمكن فصل «عودة» جنبلاط الراهنة إلى دمشق عن «مغادرته» قبل حوالى ست سنوات إلى واشنطن
في الأمر إذن، مسألتان لا بدّ من تناولهما في عملية تناول «عودة» جنبلاط إلى دمشق. الأولى، هما خطر استمرار الانخراط في تعميق الانقسام الداخلي الذي يتناول أموراً وأولويات أساسية (بل ومصيرية) لبنانية. فهذا الانقسام حول الأساسيات الوطنية، تحوّل في تماديه وتفاقمه، إلى مستوى الشرخ الكبير في بنياننا الوطني. وهو أضعف الوحدة الوطنية الداخلية، وأضعف مؤسسة الدولة، وانزلق اللبنانيون في سياقه إلى نزاعات وحروب أهلية لم تفارق تاريخهم الحديث، وخصوصاً منذ الاستقلال إلى اليوم. لا داعي هنا، إلى إظهار حجم ضرر هذا الشرخ الوطني على وحدة لبنان واللبنانيين، وعلى قدرتهم على مواجهة عواصف الصراع الضاري الدائر في المنطقة وعليها. كذلك لا بدّ من رؤية خطر هذا الشرخ على سيادة لبنان وعلى استقراره وعلى قدرته على امتلاك الحدّ الأدنى من مقوّمات التطوّر والتقدّم في جميع الحقول السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
والمسألة الثانية، ذات الارتباط الوثيق والجدلي بالأولى، هي ما يوفّره الخلل والشرخ بين اللبنانيين من إغراء باستخدامه وباستخدام لبنان، ساحة لتصفية الحسابات أو تعزيز النفوذ والأدوار. لسنا بحاجة إلى تقديم براهين على هذا الأمر. فنحن لا نكاد نخرج من وصاية حتى ندخل في أخرى. وهذه الوصايات قد تكون واقعية أو طوعية أو مفروضة، لكنّها كانت دائماً موجودة، بشكل سافر أو بشكل مقنّع. وتدلّ التجربة على أنّ التحدّث بنبرة عالية ضدّ وصاية ما، لم يكن أبداً أو يوماً، اعتراضاً على مبدأ الوصاية، بل على سياسة هذا الوصي أو ذاك. لا تغيّر من المشهد المذكور في شيء رطانة التغنّي بالسيادة وبالاستقلال وبالحرية. فتلك كانت دائماً شعارات لا تُستخدم لذاتها، بل لإضعاف الطرف المنافس والخصم، وتقع ضمن منظومة علاقات وتحالفات إقليمية أو دولية تؤدّي في آخر كلّ مطاف أو مرحلة، إلى إحلال وصاية جديدة محلّ وصاية قديمة.
هل نجرؤ في «المراجعة» إذن، فنلامس ولو قليلاً، بعض المعادلات والحقائق المذكورة؟ أي، هل هذه المراجعة، يمكنها أن تكون جديدة وجدية ومسؤولة، فتذهب إلى عمق الأزمات ولا تكتفي بالقشور وبالمظاهر. في ما عدا ذلك ستصبح المراجعة دوراناً في الحلقة المفرغة القاتلة إياها. ويصبح كذلك من غير المنطقي أن نطلب من الأستاذ وليد جنبلاط أو من سواه، أن يلتزم سياسة واحدة وتحالفات ثابتة وعلاقات دائمة، ما دام الانقسام الداخلي على ما هو عليه، وما دامت المصالح الفئوية والخاصة تتقدّم على المصالح الوطنية والعامة، وما دام، الوضع في لبنان متفاعلاً ومتداخلاً مع الوضع في المنطقة، التي هي إحدى أهم ساحات الصراع الدولي، حتى إشعار آخر.
إنّ تناول الأمور من هذه الزاوية المبدئية والأساسية، لا يجوز أن يخفي، مع ذلك، أنّ للتحوّلات ولو في نطاق المعادلات التقليدية، طعماً سياسياً مؤثّراً ومهمّاً. وهي، أي التحوّلات، لا يمكن أن تمرّ مرور الكرام. وبعضها قد يحمل نتائج إيجابية أو أخرى سلبية. هذا ينطبق الآن على «عودة» النائب وليد جنبلاط إلى دمشق. فهذه العودة ذات طابع إيجابي عام. لكنّها لا تقع في نطاق مراجعة وطنية شاملة، تفضي كما هو متوخّى ومؤمّل، إلى استنتاجات جديدة وجذرية في علاقات اللبنانيين في ما بينهم وفي علاقتهم بوطنهم وفي علاقاتهم مع الخارج.
ليست هذه مسؤولية وليد جنبلاط وحده، وهو الآن، في مناسبة ذكرى استشهاد والده المعلم كمال جنبلاط، يستطيع أن يعطي معنى جديدًا لانعطافته الراهنة. وهو أكثر من سواه، رغم ما يؤخذ عليه من مزاج متقلّب، قادر على أن يخطو خطوة ذات مغزى في الاتجاه الذي تحدّثنا عنه. على أنّ الأمر يبقى أيضاً، تحدّياً مطروحاً في وجه كلّ القوى السياسية. وهو، في مكان آخر، ينبغي أن يحفّز عملاً وطنياً كبيراً، وهذا العمل يجب أن يأتي من «تحت»، أي من القوى الوطنية ومن العمق الشعبي الذي يدفع هو أكثر من سواه الأثمان الباهظة لأخطاء الفريق السياسي وسقطاته، الذي حكم ولا يزال، لبنان وشعبه.
* كاتب وسياسي لبناني