حسام كنفانيحين تلتقي مسؤولي حركة «فتح»، تستغرب قدرتهم على الدفاع المستميت عن النهج الذي يعتمده الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، ويزيدون أن الرجل في أحسن حالاته شعبيّاً داخل حركة «فتح».
يتغاضى مسؤولو الحركة عن أن أبو مازن هو أساس الورطة التي يقبع فيها الفلسطينيون اليوم لجهة احتجازهم في دوّامة غير متناهية من المفاوضات المتقطّعة، واعتمادها استراتيجيا وحيدة وفريدة. استراتيجيا تعتمد على «خبرة» الرئيس الفلسطيني، باعتباره قائد «فرقة التفاوض» منذ ما قبل مدريد وأوسلو.
غياب الاستراتيجيا لدى السلطة الفلسطينية، ومن ورائها حركة «فتح»، واضح للعيان. التركيز على أن المفاوضات «هي الطريق الوحيد للسلام»، كما يقول أبو مازن، والحملة على الفصائل المسلّحة في الضفة الغربية وتجريدها من سلاحها من باب «نبذ العنف»، وغيرها من المعطيات التي تواجه أي حركة «غير سلميّة»، كلها معطيات تؤشّر إلى «الالتزام» بالخط التسووي، بغضّ النظر عن نتائجه، التي يعترف مسؤولو «فتح» بأنها عبارة عن فشل. لكنّ الفشل لا يعني الحياد عن هذا الخط. فالفرص لا تزال متاحة، وإن كانت الأبواب الآن موصدة.
ويجادل «الفتحاويون» بأن لديهم استراتيجيا بديلة عن المفاوضات. استراتيجيا من أربع نقاط، غالبيتها تدور في الأطر الدبلوماسيّة، وكأنّ الصراع يدور في محكمة العدل الدوليّة في سياق قانوني بحت، لا دور للعسكر فيه.
النقطة الأولى في الاستراتيجيا «الفتحاوية» هي «المقاومة الشعبيّة». عبارة عامة لا تُرفق بإيضاحات وافية: ما هو المقصود بمثل هذه المقاومة. الأمثلة التي يسوقها مسؤولو «فتح» تعطي فكرة عن أيّ «مقاومة» يتحدّثون. هم يتغنّون بتجارب نعلين وبلعين والشيخ جرّاح والعيساوية وغيرها من التظاهرات الاحتجاجية، التي باتت سمة أسبوعيّة في الضفة الغربية والقدس المحتلة.
عن هذه «المقاومة الشعبية» يتحدّث مسؤولو حركة «فتح». هي نفسها المقاومة التي يروّج لها سلام فيّاض تحت مسمى «المقاومة السلميّة»، حيث لا مكان فيها للحجر أو المقلاع أو قنبلة المولوتوف. هذه وسائل باتت مؤذية للشعب الفلسطيني. حتى إنّ المسؤولين يسفّهون الانتفاضة الثانية، باعتبارها أضرّت السلطة أكثر ما نفعتها. كما لا يأتون على ذكر الانتفاضة الأولى، التي لم تكن «سلمية»، لكنها كانت القابلة القانونيّة لمؤتمر مدريد واتفاق أوسلو، الذي جعل من هؤلاء المسؤولين «رجال دولة».
«مقاومة التظاهرات» هي النقطة الأولى في الاستراتيجيا، ترفدها نقطة ثانية تختص بـ«ملاحقة إسرائيل في المحافل الدولية» لمحاسبتها على احتلالها وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني. بند مهم لو كانت الإجراءات تؤتي أكلها. المسؤولون الفلسطينيون لا بد اختبروا أن إجراءات الملاحقة عادةً ما تنتهي عند الحصانة الأميركية والأوروبية المقدّمة إلى إسرائيل، بدءاً من محاكمة أرييل شارون في بروكسل، مروراً بالقوانين البريطانية التي يصار إلى تعديلها لحماية الإسرائيليّين، وصولاً إلى غولدستون وتجريده من فعاليته.
وإذا كانت الملاحقة هي بالتعويل على المواقف الأميركية والأوروبية المستجدة من إسرائيل، التي حلا للبعض إطلاق تعبير «أزمة» عليها، فمن الأفضل إسقاطها من الحسابات. لا شك أن هؤلاء المسؤولين لديهم جردة تاريخية بالتوترات، لا الأزمات، بين الإدارات الأميركية والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. لعل أقربها إلى الذهن كانت مطلع حكم أوباما ومطالبته بتجميد الاستيطان، التي رفضها الإسرائيليون بشدة. أين وصلت تلك «الأزمة»؟ انتهت بتبنّي الأميركيين الموقف الإسرائيلي بالتجميد لعشرة أشهر. اليوم لن تختلف الأمور كثيراً، ومخططات الاستيطان الجديدة قد تحظى بنصيب من التجميد أو التأجيل من دون الإلغاء. أما الأوروبيون، فلا يمكن التعويل على مواقفهم غير الموحّدة، ولعل الاقتراح السويدي في ما خص القدس وما انتهى إليه خير دليل على ذلك.
النقطة الثالثة في الاستراتيجيا هي «بناء المؤسسات». بند نابع أيضاً من السياسة المتّبعة من جانب سلام فيّاض، الذي يرى القضية برمّتها من منظار المصانع والمعامل والمدارس ومحطات الحافلات. معايير مهمة بالنسبة إلى أيّ دولة قيد الإنشاء، لكنها لا يمكن أن تكون أساساً للقضية الفلسطينية، التي هي قضية تحرريّة بالدرجة الأولى. البنى التحتية عادةً ما تكون لدولة ذات سيادة وأفق سياسي. شرطان لا يتوافران حالياً في أراضي السلطة الفلسطينية.
البند الأخير من الاستراتيجيا هو «بناء الوحدة الوطنيّة». عنوان جميل برّاق، لكن مشكلته أنه فارغ من المضمون. هذا ما توحي به أحاديث المسؤولين الفلسطينيين من الطرفين، «فتح» و«حماس». الاستماع إليهما يوحي بأن لا وحدة أو مصالحة في الأفق، لكنها تبقى «ضرورة» من دون الحديث عن أين ومتى وكيف.
هذه هي الاستراتيجيا التي تسير عليها حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) ـــــ نسخة أبو مازن. من الاطلاع عليها وتشريحها يمكن فهم أيّ مستقبل للتحرير وفلسطين.