نجلاء حمادة * مع أن معظم النسويات يتّفقن على أن مجمل العالم لا يزال محكوماً بالأنظمة والسلطات البطركية، فمراجعة واقع الحال بين عالمنا العربي والغرب تظهر تباينات كثيرة بين واقع تعيشه نساؤنا وآخر تعيشه نساؤهم، ممّا قد يقنع من لا يحبّ أن يقتنع بعدم جدوى التسليم بأنه «كلّه (عند العرب) صابون» أو بأنه حتى لو أحببنا أن نلحق بالغرب في أمور أخرى فتقليدنا الأعمى له في المطالب النسوية هو تبعية فيها الكثير من هدر الطاقات ومن عدم الواقعية، إلى جانب انطوائه على المهين من قلّة الفعالية، والبعد عن الاستقلالية في العمل والرؤيا.
عندنا لا تزال الأحوال الشخصية تابعة في معظمها لأحكام الطوائف التي تفرّق كثيراً بين حقوق النساء وحقوق الرجال في الزواج والطلاق والإرث والحضانة والوصاية والكفالة والشهادة، وعندهم تخضع هذه الأمور لقوانين تساوي بين الجنسين. عندنا لا تزال الغالبية من الزعامات ومراكز الصدارة متوارثة أو منضوية، في معظمها، بحيث عندما تصل امرأة إلى موقع سياسي، تشريعياً كان أو تنفيذياً، تكون ممثلة لقريب أو لإرثه أو لزعيم ملحقة به، بينما وصلت النساء في الغرب (وسواه) إلى مواقع القيادة الفعلية وإلى صنع القرار في أعلى قمم أهرامه. عندنا طالما كان المثليون والمثليات ظاهرة مألوفة بغضّ الطرف عنها، لأسباب كثيرة قد تكون إحدى علاماتها التقارب في الزي التقليدي بين الجنسين، أمّا عندهم، فتتأرجح النظرة إلى هؤلاء بين الاحتقار والإهانة، من جهة، وعقد الزواج بين شخصين من نفس الجنس، من جهة أخرى. فلماذا نصرّ على تبني المطالب النسوية الغربية التي لا يغيّر حصولنا عليها الكثير من واقع الحال عندنا، على حساب حاجاتنا الملحّة التي تطاول كلّ نسائنا أو معظمهنّ؟!
في مؤتمر عن النسوية عُقد في الجامعة الأميركية في الشهر العاشر من العام الماضي، صنّف بعض المعلّقين مداخلتي التي طالبت فيها بحقوق الأمهات كأقصى يمين لمؤتمر رأين أقصى يساره متمثلاً بأوراق تطالب بالحقوق الجنسية للنساء وبحقوق المثليين. إلى أيّ من النوعين من الحقوق نحتاج أكثر في مجتمعاتنا العربية، وأيّهما أقرب إلى تحسين أوضاع النساء ورفع الأذى والظلم عنهنّ؟
لماذا نصرّ على تبني المطالب النسوية الغربية التي لا يغيّر حصولنا عليها الكثير من واقع الحال عندنا؟
وفي مقالة له في جريدة «الأخبار» لمناسبة اليوم العالمي للمرأة، انتقد أسعد أبو خليل «تكريس الدور التقليدي للمرأة، فيقال فيه كلام عن الأمومة والحضانة والدفء البيولوجي»، وكأنّ الكلام عن الأمومة ودفئها يتعارض مع ما يطالب أبو خليل به من تحرير للنساء ومن تقويض النظام البطركي من جذوره. ورغم اعتقادي أنه ليس بين النسويات أو حتى النساء عامةً من ستذرف دمعاً على ذاك النظام لو دكّ (اللّهم إلّا بعض المؤمنات بالتحليل النفسي الفرويدي اللاكاني اللواتي يساوين بين الصحة النفسية والنظام الأسري التقليدي الخاضع لسلطة الأب أو الممجّد لاسمه)، فهل سنقلع بعد دكّه عن الأمومة؟ وهل لا يعود الأطفال بحاجة إلى دفئها ورعايتها؟ ومن أين يحصلون على هذه الحاجات الماسة التي لا تستقيم شخصياتهم بدونها، ولا تنفتح مخيلاتهم الحضارية إن لم تُهيّئ لهم، هي بالدرجة الأولى، الشعور بالأمان (انظر دراسة ألان مولاند)؟
هل إذا حصّلت الأمهات الغربيات حقوقهنّ ولم يعد موضوعها مطروقاً من نسوياتهن وجب علينا أن نستكين لأوضاع عائلية تعرّضنا للطلاق التعسفي وفق مزاج الزوج، وبالتالي للحرمان من فلذاتنا ومن بيوتنا وممّا نجنيه مدى العمر، أو تعرّضنا لترمّل نخسر فيه وصاية الأهل (الأب والأم) على أولادهم لتوضع أحيانًا ـــــ وضمنها الوصاية على الأمهات أيضاً ـــــ في يد جدّ خرِف أو عمّ جشع؟
هل تحصل النساء العربيات على حقوقهنّ عندما يعيّن بعضهنّ في وزارة ما، حتى لو صرّح السياسي المسؤول بأن تعيين الواحدة كان «في اللحظة الأخيرة لصدفة وجود سيرتها العملية على مكتبه»؟ وهل يتوازى في الأهمية انتقال بعض السيدات من الصدارة في المجتمع أو في الجمعيات إلى مناصب سياسية مع المساواة في حقوق الأمومة والأبوّة، بما في ذلك في قانون الجنسية الذي يسبّب التمايز فيه مأساة قد ترافق العائلة من مهدها إلى لحدها. إن الفلّاحات والفقيرات اللواتي يتعاطف معهنّ أسعد أبو خليل يكنّ أكبر الخاسرات لو أهملت النسوية حقوق الأمهات، وأقلّهن استفادةً من التركيز على حقوق النساء في المناصب السياسية أو في حرياتهنّ الجنسية. ومع أن التغيير والإصلاح الشاملين اللذين لا بدّ أن يشتملا على المساواة التامة بين جميع الناس، مواطنين وغرباء ولاجئين، ذكوراً وإناثاً، هما المطلب النهائي للنسوية والجندرية وما يشبههما من اتّجاهات إنسانية واعية، فبعض ما لا يمكن تغييره هو الحقائق البيولوجية والنفسية التي تحتّم وجود أمهات وآباء وأطفال لا غنىً لهم عن الرعاية الجسدية والدفء والأمان النفسيين. وبالتالي، مهما تغيّرت الأوضاع، تبقى حقوق الأمهات، لا إلغاء الأمومة، هي أهم مقوّمات العدالة والاستقرار والصلاح الاجتماعي والنفسي. وفي المجتمعات العربية، حيث تمجّد الأمهات في الأشعار والنصوص الدينية ليلحق بهنّ، وبالتالي بالمجتمع عامةً وكلّه منوط ومتأثّر بهنّ، أفدح التمييز والظلم والاستبداد ممّا لا يبرّره أي واقع عملي أو تنظيمي، لا حاجة نسوية أو حقوقية أكثر إلحاحاً من الحاجة إلى إنصاف الأمهات. وأيّ جماعة من النساء منقوصة الحق والقيمة في عائلتها لا تحصل فعلياً ومعنوياً على حقوق سياسية أو سواها لأنها تبقى في نظر المجتمع ونظر نفسها كياناً تابعاً ومنقوصاً.
* كاتبة لبنانية