وائل عبد الفتاحتعطلت الحركة فجأة في كل مؤسسات الدولة. الخبر انتشر مثل الطوفان: الرئيس في غيبوبة. صحف حراسة النظام ارتبكت والتلفزيون الرسمي بحث عن شرائط القرآن الكريم. والهواتف سخنت بقوة. لم يكن السؤال: ماذا حدث للرئيس؟ السؤال كان: ماذا سيحدث لمصر؟
الخبر لم يكن صحيحاً. لكنها «بروفة» وضعت الدولة والمجتمع في حالة تأهب جديدة ليست كسابقتها التي توقفت فيها البلاد يتيمة في منتصف الطريق. مبارك ليس أباً جباراً لكنه أب سيترك خلفه فراغاً واسعاً في السلطة، من دون اختيارات. هذه المرة الفراغ مختلف، مفاجئ لكنه باقتراحات أوسع.
لم تعد الترتيبات السرية وحدها تناوشها رغبات شعبية عارمة بإزاحة نخبة مبارك كلها. تتجسد الرغبات في البرادعي الذي يتميز أيضاً بحضوره في مستويات مختلفة من مؤسسات العالم. والجمع بين الشعبي والدولي سر قوة الفرصة التي عادت إلى مصر مع مدير الوكالة الذرية السابق.
تعيش مصر زمنين إذاً. زمن الحاكم الفرد الذي تنعدم المسافة بينه وبين الدولة ويحكم بقداسة فرعون واستبداد «المالك الأصلي» للأرض والناس. وزمن ديموقراطي لم يتحقق بعد لكنه في الخيال العمومي تجسد في انتصار على زمن الفرعون الذي أصبح «بائداً».
مفارقة سياسية فريدة تحوّل المأزق الذي وضع فيه مبارك مصر إلى «لعبة زمنية» تداري بعضاً من الرعب الآتي عندما تصبح مصر بلا رئيس يمكن اختياره على الطريقة القديمة أو قواعد ديموقراطية لانتخابات الرئاسة. المصير مرهون بخلطة عشوائية ومعجزة ومفاجآت اللحظة التي ستصنع «العهد الآتي».
من علامات «العهد البائد» أن ما يحدث في الظلام ينكشف بأسرع من الصوت. كل يوم تتكشف صفقة للحزب الوطني مع أحزاب المعارضة تحت التدجين أو جماعة «الإخوان» المسلمين التي يقتل الحراس الصحافيون للنظام أنفسهم في وصفها بـ«المحظورة».
الاحتياج إلى الصفقة هو شعور بالضعف وعدم القدرة على الدخول في منافسة حقيقية. إنها جولة ربما أخيرة في حرب الحفاظ على المواقع.
الناس من فرط الأمل وقوته تتعامل كما لو أنها بالفعل في «العهد الآتي». وضع غريب يكشف عن أن الأمل أقوى من الفعل أو القدرة على الحركة الحقيقية.
أخبار الصفقات لا تزال مثيرة وبطلها الملياردير أحمد عز يبدو منظره مثيراً وهو يجلس إلى طاولات التفاوض ليوزع على الأحزاب مقاعد في مجلس الشعب لضمان انتقال هادئ للسلطة من الحزب الوطني إلى الحزب الوطني.
والأدق أنها محاولات لاعتماد الركود كأسلوب سياسي للسيطرة على بلد كبير. يريد أحمد عز ورفاقه «تقزيم» مصر لتصبح على مقاسهم وحجمهم.
هذا هو الاستقرار بالنسبة لهم: أن يظل كل شيء في مكانه بعدما استقرت الثروة في يد مجموعة صغيرة جداً أكثر ما يميزها هو الأنانية المفرطة.
يريدون السلطة من أجل حماية ثروات يعرفون أنها لم تكن بالكامل من حقهم، وأنها صنيعة نفوذ سياسي لا نشاط اقتصادي.
يحلم المصريون بالتخلص من كل هؤلاء والتنفس بعيداً عن شهوات الأنانية المفرطة. يحلمون ويفرطون في الحلم، ويتصورون أن أحمد عز والنظام الذي أتى به والحراس الذين يحمونه في الأمن والصحافة قد غادروا مكاتبهم إلى غير رجعة.
لكن الحقيقة أن رموز «العهد البائد» لا يزالون موجودين ويحكمون ويعقدون صفقات تهدف إلى خلودهم تحت شمس الثروة والسلطة.
هذه مفارقة تجعل مصر تعيش تحت زمن سياسي مربك للغاية. من يملكون القرار يريدون «عودة عقارب الساعة إلى الوراء». ومن يحلمون «لا يملكون ساعة ولا يسمح لهم بلمس عقاربها». طبعاً هذه تشبيهات مستعارة كلها من الأيام الأولى لتغيير الملكية وبداية الجمهورية، واعتبار زمن الملك «عهداً بائداً». والمستفيدون من الملكية «هم السائرون ضد حركة الزمن الجديد».
الخيال السياسي لم يعد مشغولاً بصحة الرئيس ولا بقوته البدنية ولا بتربيطات الحزب السرّي لجمال نجل الرئيس. الانشغال الآن بمستقبل حركة التغيير وقدرتها على الانتصار على رموز «العهد البائد» مرة واحدة. وهذا لن يحدث بالطبع، لأن زمن الانقلابات العسكرية انتهى تقريباً وهذه أيام التغيير السلمي.
هذا يعني أنه لن تسقط من السماء قوة تخلّص مصر ومجتمعها من «العهد البائد» وصفقاته. ولن ينتهي نظام يجعل أحمد عز مديراً لصفقات المستقبل بمجرد الرغبة أو الحلم بالانتقام من كل «أعداء الشعب».