strong>رائد شرف *عند الخروج من صالة السينما في فرع «الغراند سينما» الواقع في الـABC بعد انتهاء عرض فيلم، يبدأ عرض فيلم آخر. ينتظرنا «زنجيٌ»، أو الأنسب أن ننعته موضوعياً «بالعبد». والحال الموضوعية هي موقع الشخص من علاقته مع الآخرين، فكيف إذا كان لهذه الحال كنية متفق عليها؟ إذاً «عبدٌ» ينتظرنا على باب صالة العرض، وهو يحمل في يديه كيساً. وإذ به يمد يديه صوب كل من يخرج من باب القاعة المظلمة، عسى أن يفهم من الزبائن الذين لم يتخلصوا من مستهلكاتهم في أرض الصالة وبين مقاعدها، أنه يؤدي دور «الزبالة التي تأتي إليك(كِ)». تسبب المياه والفشار المستهلكة أثناء مشاهدة الفيلم الحاجة إلى تفريغ المبولة، ما يذهب بالزبائن إلى قصدهم الحمامات. وهناك، في قسم الرجال، يمكننا أن نرى «عبدة»، هذه المرة من الجنس النسائي، وهي تجتهد في تلميع مرايا المكان، بينما أبواب أقسام الخروج من ورائها وأمامها على المرايا، تنفتح وتنغلق على إيقاع أسراب الشباب المبولين وطالبي التبويل، وهم كثر عند انتهاء كل فيلم.
هذه المجموعة العاملة من «العبيد»، تحوي احتمالات طبائع متنوعة. فمنهم من أمكننا أن نستشف عنده نوعاً من القرف وهو ينفذ مهماته. قرف قد يُترجَم شعورٌ بالذل، أو قرفٌ تجاه المجتمع من حوله: عند بعضهم، يغلب ازدراؤهم من شخصهم على نظرتهم للحياة، والشعور بأن الحياة لا تكافئ بما فيه الكفاية، وهو نوع من العزلة. وبالتالي، بأن شخصهم فشل. أما عند البعض الآخر، فيغلب شعور الغضب والكره لمحيط وقح، والمعرفة بأن الدنيا والسماوات والآلهة كلها مخطئة، ولن تستوي يوماً على صواب إلا بفعل اليد التي دربها العمل والعبودية، بفعل لكماتها على «وجوه» الوقاحة. والظروف الموضوعية لهؤلاء العاملين في أسفل هرمية العمل والمجتمع كفيلةٌ بأن تقدم الحجج والبراهين على صوابية أفكارهم، بتنوعاتها.

غالباً ما يكون الجواب على تمرد العمال المستعبدين في لبنان مسخرة في الشارع وفي المخفر
لكن بعيداً عن «دراما» تأويلات الأفكار، ذلك أنه في الحياة الاجتماعية ما يكفي من قوى قامعة للأفكار، تحصرها في عقول أصحابها وفي عيونهم. يسري المجتمع اللبناني على إيقاع آخر، أكثر هدوءاً. وغالباً ما نرى العاملين في ظروف صعبة، حيث لا يعمل غيرهم، مسيطرين على مظاهر القرف التي تسهل تجلياتها عند الطبقات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، في ظروف أقل صعوبة. وهذا ما يجعل القمع أكثر مأساوية. فالحقيقة أن مظاهر الاعتراض في لبنان، على تنوّع أشكالها، تتعرض لأقسى أشكال القمع الجسدي، وعدم الفهم. والضرب لعدم الفهم قد يكون أكثر إيلاماً من القمع الجسدي للتمرد. هم يضربون كما يُضرب الأطفال، والابتسامة على وجه الجلاد، لا كمتمردين، حيث تكون صفة التسلط تحت المساءلة، ما يترك أفعال الظلم سارية، على نحو اعتيادي ومن دون معارضة تلمس. لا بل يجعل أفعال الظلم منطقياً مقبولة، أو سارية، لا يناقشها أحد، ولا تستوي في الخطاب السياسي أو حتى في الخطاب الاجتماعي العادي مقام جدلٍ. فغالباً ما يكون الجواب على تمرد العمال المستعبدين في لبنان مسخرة في الشارع، وفي المخفر، ولكمات على الوجه بقصد وقف صوت البكاء وليس دائماً بقصد إسكات «الفضيحة».
فيصبح هؤلاء العاملون في أسفل هرمية العمل، في نظام السكوت عن الظلم وعدم إدراكه، كائناتٍ «طبيعية»، في الموقع الذي تستحقه ولا يستحقه غيرها، لأنها «لا تقرف» و«لا تشمئز»، وبكاؤها بين الحين والآخر سببه «هستيريا». باختصار، لأنها تستوجب شروط هذا الموقع الوظيفي. «تخيلوا أن نأتي بلبنانية لتنظيف الحمامات مثلاً؟». هكذا يذهب المنطق العادي. فوظيفة تنظيف الحمامات من ضرورات «الكرم والاهتمام بالضيوف». وجلها من صفات الأيديولوجية الوطنية المهيمنة.
لكن لنبدأ من أول الحكاية، حكاية المجتمع اللبناني مع العنصرية. ولهذه أشكال عديدة، فعالة يومياً، في سلب حقوق الناس، في تسهيل استغلالهم، وتعميم الفرقة، وعموماً في صنع القهر في المجتمع. هي كما سنرى، بمعظم أشكالها، مرتبطة بسيطرة الطبقة الحاكمة على المجتمع. تارةً، يسهل انتشارها الحكم، وطوراً يخترعها. وتستدعي اختراع يد عاملة مختصة في تدعيمها وفي الإشراف على سير أمورها.

الطائفية

يمكن من المقطع السابق استخراج منطقين لسير أمور العنصرية يعملان في اللحظة نفسها: قمع الاعتراض، وهو المنطق الأول، والمؤدي إلى الثاني، وهو تكريس الهرمية العنصرية في أي مسألة، على أنها من طبيعة الأمور. أي جعل اللحظة التي تمارس فيها العنصرية من اللحظات العادية.
ليس في لبنان عنصرية، بل في لبنان نظام عنصري. والطائفية التي يعرف بها النظام عادةً، تكاد تكون قشرته الأخيرة. فالطائفية محكية، يتحدث بها الناس والسياسيون على تنوعهم. حتى الإسلام السياسي في لبنان منتقد للطائفية. وهي تُشرَّح مراراً، حتى ولو في خدمة تغذيتها. أي عندما تنتقد مثلاً بما تمثله من «إجحاف بحق طائفة». وهذا النوع من النقد، الأكثر شيوعاً بين الطائفيين، تكمن طائفيته بالاعتراف بـ«الطوائف» قبل كل شيء. وبالتالي في تسهيل استخدامه في الخطاب السياسي، كمصطلح، بما يحمله من معانٍ وصور متخيلة، على حساب المصطلحات المنادية بالتمثيل الديموقراطي الدقيق. فالطبقة السياسية في لبنان، منذ استواء النظام الميليشيوي وتصفيته معارضيه ومنتقدي خطابه، أمثال الشهيد مهدي عامل، اعتادت تغذية حجتها التمثيلية من التقسيم الاعتباطي الطائفي والمناطقي للمجتمع. فهنالك من ادعى أثناء الحرب تمثيل المسيحيين، وغيره الشيعة، وغيره سكان بيروت، من دون إجراء انتخابات، والانتخابات عندما أتت، وثقت لعدم تمثيل هؤلاء للناس، ووثقت لتمثيلهم على الناس. طبعاً، القول باعتباطية تقسيمات الحرب لا يعني إنكار بعض أسس هذه التقسيمات الملموسة والتاريخية المنشأ: فقصف جيش أمين جميل مثلاً الضاحية الجنوبية لبيروت كان حقيقياً وسبباً كفيلاً بجعل أي خطاب معاد لدولة أمين جميل خطاباً شرعياً وشعبياً، مهما كان لباس هذا الخطاب واستنتاجات القائلين به التي قد لا تكون بمستوى الشعبية نفسه. ومرحلة الجمهورية الثانية امتازت بعزل مؤسساتي مقصود لسكان المنطقة الشرقية، في تمثيلهم الانتخابي، بدا أكثر انسجاماً مع مبررات الخطاب الطائفي «المسيحي» منه مع المنطق الطائفي «الإسلامي» في المنطقة الغربية، حيث القمع لم يكن أقل دموية إن لم يكن أكثر. لأن القمع جاء في لحظة واحدة، شاملاً ومعمماً، مستهدفاً التيار الشعبي الوحيد الذي أفرزته الحرب الأهلية، أي التيار العوني. ما أثر من دون شك على التنشئة السياسية لقاطني هذه المنطقة، على مدى خمس عشرة سنة، ليس بالضرورة بمنحى التراص «الطائفي» المعني، بل بتنوعات صوره المتخيلة وحججه الثقافية. كل ذلك تماشياً مع عمل إكليريكي دؤوب على تأمين شروط تراصّ طائفي مسيحي عبر تنشئة المدارس والجامعات والرعيات وغيرها من مؤسسات التأطير الاجتماعي، في تقليد عند الإكليروس عمره من عمر لبنان، الفكرة والدولة. في ذلك نرى أن الغربية، بخطابها المهيمن في التسعينيات على الساحة الإعلامية والسياسية، ساهمت في دعم التراص الطائفي في المنطقة الشرقية عبر دعمها شروط حجته، هذا التراص الذي أسمته «بالانعزال» والذي لطالما ادعى بعض قواها الوقوف في وجهه. هذا في بعض التاريخ.
والتشديد على اعتباطية التقسيمات للمجتمع اللبناني والعودة تكراراً إلى حلقات توثيق هذه الاعتباطية، مثل انتخابات ١٩٩٢ التي شلحت كل الميليشيات المسيطرة أي شرعية رومانسية كانت لها «تحت هدير المدافع»، هذا التشديد إذاً، هذه العودة إلى اللحظة المؤسسة الكفيلة بإجلاء سببيات هذه اللحظة والشروط الاجتماعية التي فرضتها على الواقع، تبقى ضرورية، في نظام اجتماعي يغذّي نفسه من الأمر الواقع، من القبول بخطاب الأمر الواقع ومن تغييب شروط مساءلة هذا الأمر الواقع. كما سنرى في وضع باقي قشور عنصرية النظام في لبنان.
الطائفية بشروطها السائدة حالياً تكاد تكون من إنتاج الطبقة السياسية فقط، إذ وحده الإكليروس الماروني من بين المؤسسات الروحية له كلمة مستقلة وفعالة في الموضوع خارج المجتمع السياسي. والحقيقة أنه لم يسمح حتى لأحزاب طائفية جديدة أن تبرز، دينية كانت أم عقائدية، وأن تزدهر في لبنان في السنين الماضية (جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، وبالرغم من وزنها التمثيلي، أخرجت من السياسة في الانتخابات الأخيرة). وفي معظم الأحيان، وكما يتضح من تنوع التحالفات عند كل فريق، يبدو أن الطائفية هي حصرياً من فعل نظرة عنصرية عند الطبقة السياسية تجاه المجتمع. نظرة ليست بالمستغربة عند السياسيين، ولماذا تكون كذلك، عندما الخطاب الأكاديمي المحلي المهيمن يكون هو أيضاً طائفياً. ويشترك بعض الأكاديميين الأكثر مرجعية والسياسيين بالنظر إلى الشعب كالماشية، لا يحركه إلا «الخطاب الجماعاتي» (اقرأه: «الطائفي»). وحيث يبدو بعض السياسيين صادقين في طائفيتهم، في حرصهم على «مصلحة المجتمع المسيحي» أو على «وأد الفتنة بين المسلمين»، لا شيء أكثر من تشاركهم مبادئ «العنصرية الاقتصادوية» يحسم الجدال لمصلحة حقيقة عدم صدقهم الطائفي أو أقله في مركز الطائفية الثانوي في هرمية العنصريات المتفشية في معتقدات مجتمع السياسيين. إذ إن العنصرية الاقتصادوية تكاد تكون النظرة الوحيدة المسموح بها في حقل الخبراء والتكنوقراط في البلاد، من أي حزب أتوا. حتى الطائفية لا كلمة لها في الاقتصاد، بعكس ما توحيه زبائنية الدولة. وهي لذلك أكثر العنصريات فعالية في المجتمع اللبناني، وأقلها مساءلة في تاريخه المعاصر.

العنصرية الاقتصادوية

وبينما يظهر أن استنفار العدة الخطابية الطائفية في الخطاب السياسي لا يأتي إلا في لحظات التصادم بين الفرقاء، ذلك على حساب أي منطق، بما فيه منطق محطة التصادم (يطالب بحصص النفوذ في جسم الدولة على أنها لمصلحة تمثيل طائفة لا على أسس الكفاءة)، تبدو العدة الخطابية الاقتصادوية محط إجماع، لا تستنفر إلا في محطات الإجماع. وإذا كانت العدة الخطابية الطائفية، من اسمها ولغتها، عنوان فرقة وتقسيم للمجتمع، فإن العدة الخطابية الاقتصادوية تجند هي أيضاً في أوساط عملها، في دوائر الخبراء، وعلى نحو يومي، معتقدات عنصرية، تفضّل ناساً على ناس، وترعى مصالح ناس بينما تسلب آخرين حقوقهم وآرزاقهم. هنا أيضاً، تبدو ضرورية قراءة الفصل التأسيسي لهذا المنحى العنصري، أو لنقل، الفصل الذي أعاد صياغة هذا المنحى الذي لطالما تميز به النظام في لبنان (يراجع في تاريخ هذا المنحى في المراحل التي سبقت كتاب فواز طرابلسي «تاريخ لبنان الحديث»، رياض الريس للكتب والنشر، ٢٠٠٨). هو فصلٌ تأسيسي في إرساء قواعد الجمهورية الثانية في لبنان، وفي فضح طابعها المنتج للأزمات الاجتماعية، في مرحلة ادعت فيها الطبقة المهيمنة أنها في طور إخماد الأزمات (في السنين التي تلت اتفاق الطائف). والفصل بالطبع يعني الحريرية مباشرة، إذ من قد يكون عنصرياً في المجتمع أكثر من رأس الهرم الاقتصادي؟ هو فصل سوليدير. وهو بالأرقام الفصل الذي خصص فيه ما يوازي ثلث الدخل القومي آنذاك لبقعة أرض لا تساوي ١/١٠٠٠٠ من مجموع مساحة بلاد خرجت لتوّها من حرب أهلية. (يراجع في ظروف هذه المرحلة ومنطقها الاقتصادي كتاب جورج قرم «لبنان المعاصر: تاريخ ومجتمع»، المكتبة الشرقية، ٢٠٠٤، أو لمزيد من التفاصيل، كتابه «الإعمار والمصلحة العامة: في اقتصاد ما بعد الحرب وسياسته»، مؤسسات الأبحاث المدينية ــــ دار الجديد ــــ مؤسسة فورد، ١٩٩٦). وهي بداية ممارسة، متنوعة الوسائل، سيذهب بها النظام الاقتصادي ومؤسساته إلى أبعد الحدود، في رهن البلاد بمصلحة أقلية من الأغنياء، كما يلاحظ قرم. ستلي حلقة سوليدير حلقات أخرى، أكثرها قهراً لقاطني الأرض، حلقة دين الدولة، حيث ستصبح السلطة الوحيدة الكفيلة بتنظيم توزيع الثروات، أي الدولة، هي نفسها مرهونة بمنطق الجشع الرأسمالي ومصلحته. فكيف للدولة في هذه الظروف أن تأمن توزيعاً عادلاً للثروات بين المواطنين؟ وبالتالي، كيف لها أن تكترث لأمر المواطنين؟
لكن مسألة سوليدير ليست فقط بالارتهان «اللامنطقي» لحجم رأسمال الشركة، وللعبة الأرقام التي لا تلهي سوى الاقتصاديين والتكنوقراط العملاء عند رأس المال. في بروز سوليدير، في تحقيق المشروع «الحلم» عند صاحبه، خطوات سياسية واجتماعية عديدة سبقت عملية الاكتتاب على الأسهم، من إغواء نواب ووزراء وقادة ميليشيات، إلى تمرير مشاريع تعديلات على القوانين وتسويق ضرورتها أمام الطبقة السياسية والإعلام (أبداً أمام الناس وأصحاب الحقوق). والأرقام التي ستفرض واقعها لاحقاً، والتي لن يناقش جدواها أحد، لم تستوِ في الأصل بالمنطق العادي نفسه. كانت عملية التحضير لإنشاء الشركة العقارية تتضمن كثيراً من الخداع، والعمل في الظل، بعيداً عن سبل المساءلة والاستجواب الديموقراطي، على شكل أعمال «الحركات السرية»، بنموذجها الأكثر تآمراً على الناس، والتضخيم في محله، كما سنرى تباعاً.
يمكن العودة إلى محضر أولى جلسات اللجان المشتركة في البرلمان اللبناني للنظر في بعض من سلوكيات المجتمع السياسي في خياطة هذه المسرحية على الناس، وفي مقاومة البعض لهذه المسرحية، وكان آنذاك المجتمع السياسي يعيش آخر أيام انقلاب داخله سوف تختمه المسرحية الانتخابية سنة ١٩٩٢. (مرجعنا كتاب «قانون الشركة العقارية: النصوص التشريعية والتنظيمية»، من تحقيق النقيب عصام كرم وتقديم رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ١٩٩٤). كان من بين مواضيع الجلسة الأولى، في تاريخ ١٨ حزيران ١٩٩١، درس مشروع قانون يرمي إلى تعديل بعض مواد المرسوم الاشتراعي المتعلق بإنشاء مجلس الإنماء والإعمار. سيسمى بالقانون ١١٧ عند إقراره. والمجلس الأخير، كان يرأسه حديثاً آنذاك الفضل شلق، حريريٌ من الطراز الأول منذ أن توظف عنده سنة ١٩٧٨. والتعديلات على المرسوم الاشتراعي تهدف إلى تأسيس شركة عقارية تعنى بإعادة الإعمار، ضمن شروط وتسهيلات معينة مستحدثةتنوعت الآراء في هذه الجلسة، فهناك من كان معارضاً للمشروع بشراسة (حسن الرفاعي وإلياس سابا)، إلى حدود الغضب. وقد كثرت ملاحظاتهم على ما نصه المشروع من تنظيم للعلاقات بين الشركة المزمع تنفيذها لإعمار المناطق المدمرة من جهة، والدولة وأصحاب الحقوق من جهة أخرى. ومن النواب من تحدث حصرياً عن شركة مقصود إنشاؤها لإعادة إعمار الوسط التجاري لمدينة بيروت بالتحديد. وهناك من اكتفى بالاعتراض على بعض بنود المشروع، بداعي الحذر والتأني. وكان عامةً أغلب الحاضرين ساكتين، مشاهدين. لا أثر لهم في نقاشات المحاضر في هذا الموضوع بالتحديد، رغم تأكيد حضورهم في بدء الجلسة. أما في الجهة الأخرى، جهة الحكومة التي صاغت المشروع والنواب المتحمسين له والإداريين، فيبرز موقع التماسيح. في التعاطي مع انتقادات النواب المعترضين، أو حتى في سكوتهم، الذي إن أمكن تفسيره كعلامة رضى على سير الأمور، فإن تفسيره قد يعني أيضاً عدم تسلح هؤلاء بالحجج الأخلاقية الوافية في وجه حجج المنتقدين، وطبعاً،باطمئنانهم إلى أن الأمورستسير في المنحى المطلوب، وأن الجلسة ونقاشاتها من الأمور المسرحية التي لا بد منها. فقد أتى بعض النواب على انتقاد أداء مجلس الإنماء والإعمار في العهود السابقة، إذ يعلمنا النائب بيار الحلو مثلاً أن نبيه بري نفسه وصف في ما مضى المجلس «بمغارة علي بابا»! وهذا كبير في كل المعايير. ومجلس الإنماء والإعمار، كما ينص مشروع القانون، هو الموكل إليه تأسيس الشركة العقارية التي ستصبح سوليدير. وجاءت غيرها من الانتقادات التي لم يرَ أحد ضرورة للرد عليها. النائب سليم سعاده يسأل من أين أتت الفكرة على مجلس الوزراء؟ هل «نزل الوحي» على الوزراء الثلاثين المجتمعين؟ يسأل سعاده (ص. ١٣٨) ويلمح إلى وجود «صاحب الفكرة» ووجوب استجوابه «لأنه قد يستطيع أن يقنعنا أكثر من بعض الوزراء». بدا جلياً للمشاركين في الاجتماع أن فريق الحكومة غير مجهز بالحجج المقنعة. وحده أبو إلياس، المر، تطوع للدفاع عن الفكرة، وأي دفاع! «الدولة لا تصرف أموالاً على هذا المشروع»، «يقول أشياء غير صحيحة»، دحض غير مفصل لملاحظات النواب، والمستغرب أن النواب هم من اعتبروا أنفسهم غير مطلعين على المشروع بما فيه الكفاية لمناقشته في هذه الجلسة الأولى. ثم عندما يثابر إلياس سابا على إثبات أن العملية القانونية، المكونة من المشروع المقترح ومن قانون التنظيم المدني، تغير طبيعة ملكيات أصحاب الحقوق التي من المفروض أن تسيطر سياسات الشركة العقارية على التصرف بحقوقهم (وأن تنتزع حقهم بالكامل عن طريق تذويب حصتهم في رأس مال الشركة)، بمعنى أنها تغير الملكية نحو الأسوأ، يقول له ميشال المر «هذا النص لم نضعه نحن» (نص قانون التنظيم المدني)، معترفاً بأن في القوانين مساحات تسمح بالخداع وبتحوير الغاية من إرساء القانون، و«مطنشاً» على الموضوع، كما نقول بالعامية. الياس سابا يجيبه «أنا لم أقل إنك أنت الذي وضعته». يظهر النص جواً من الاتهام والمحاكمة، ترجم ضغطاً على البعض، وتضييعاً لهدف النقاش على حساب الدفاع عن السمعة الشخصية. في ذلك الإطار، جاء بعض النواب المتحمسين للمشروع على أنه أوجد خدمةً لبيروت التي جميعاً نحبها ونعشقها. هكذا مركزية بيروت، واللعب على الوتر الطائفي عبرها، يأتي ليقمع الآخرين ويضعهم في موقف دفاعي. مع أن المشروع، كما قالوا، يصب في إعادة إعمار كل المناطق اللبنانية. لم يكن كذلك عند بعض من دافع عن مشروع القانون. كان أفق هؤلاء واضحاً: سوليدير وسوليدير فقط. في جلسات اللجان المشتركة التي ستتبع (في تاريخ ٢٧ حزيران ١٩٩١)، سيذكر أحد النواب المنتقدين أنه وغيره وفريق الحكومة «نعلم كلنا ويؤسفنا أن نعلم أن المرسوم، أي أشباح الشركة، نُظّم وشُكّل قبل وضع مشروع القانون هذا» (ص. ١٥٢).
الرواية نموذجية على أكثر من صعيد، وفيها الوفير من نماذج السلوكيات الاجتماعية التي ستصبح قاعدة في ما بعد، في تعاطي السياسيين مع حقوق المواطنين. فسوليدير تكاد تكون منذ انطلاقتها، أي منذ اكتمال أول استكتاب على الأسهم، كارثةً على الصعيد الوطني، ومرسيةً لمعادلة جديدة في الاقتصاد، قوامها أن مصلحة قلة من الأغنياء والمالكين، أولاً في تأطير الرساميل من جانب الحكومة من مصلحة ملايين المواطنين. كما أن لحظة الاحتفال بالشركة العقارية تلخص المنطق الأيديولوجي المرفق بهذا المنطق الاقتصادي، إذ إن الاحتفال يصبح حجةً، وركيزة رمزية متخطية للمنطق، في وجه أي خطاب سياسي آخر. هذا الاحتفال بالمعادلة الاقتصادية، العوجاء في معيار مصلحة الفقراء ومصلحة العدد الأكبر، سيتبع انتهاجه في مسألة المصارف اللبنانية، التي يقدسها النظام بشبه كامل أعضائه، بالرغم من علاقتها المدمرة بالدولة وبالمجتمع عن طريق الدولة.
يتضمن مشروع القانون الذي سردنا مناقشته أعلاه، تنازلاً من الدولة عن تحصيل الضرائب الناتجة من المشروع على مدى عشر سنوات، وهذه ستكون ثابتة النظام الاقتصادي اللبناني الذي سيتبع، أي إعفاء أكبر المنتفعين والرساميل، من المشاركة في إعادة بعض التوازن، لا بل الكثير من التوازن، إلى نظام إعاشة مجتمع اغتنوا من امتيازاتهم فيه. بل أكثر من ذلك، ستشيد الحريرية نظام نفقات للدولة ونظام استدانة بحجة النفقات، استدانة من المصارف وعن طريق إصدار سندات خزينة بفوائد خيالية تفوق كل المعدلات في المنطقة وعلى المستوى العالمي (أي لا تبررها الضرورة التنافسية)، سيجعل هذا النظام الدولة أسيرة للدين. أسيرة أبدية في المنحى الحالي للأمور، حيث يذهب أكثر من نصف نفقاتها السنوية لخدمة هذا الدين، نصف ما تجنيه الدولة من جيوب المواطنين، مساهمةً في إفقارهم. بينما ينشط الخبراء الاقتصاديون ــــ سمّهم العملاء الرّخاص عند رأس المال ــــ في كل مناسبة استحقاقات إدارية (مثل إقرار الموازنة الحكومية وما تتضمنه من تفصيل للنفقات) في الاشتكاء من مصاريف جسم إدارة الدولة، والمضمونين، والمعلمين والوزارات الريعية، وغيرها من الوسائل التي، مهما علا سخفها ومهما قلّت فائدتها، إلا أنها من الوسائل القليلة التي تعيد إلى المواطنين القليل من الذي دفعوه ضرائب تصاعدية، والذي ذهب معظمه إلى المصارف والمودعين الكبار. هكذا يسير الاقتصاديون، وحقل كامل من الخبرات في لبنان، من أعالي مكاتبهم الموزعة بين مباني المصارف الرئيسية، ووزارة المال، ومشاريع الأمم المتحدة، والأقسام الاقتصادية لأغلب الصحف، والقصر وبلاطه، على التنكر يومياً، وفي كل منشور يصدرونه، أو مقال، أو مقابلة تلفزيونية، لا بل في أبحاثهم الداخلية، التنكر لحقيقة أن النظام الاقتصادي كله يذهب في منحى استغلالي بحت، وأن كل مؤشراته الحسابية تدل على طغيان تغذية الاستغلال المطلقة. مساهمون في تماشيهم مع سير الأمور الحسابية في إرساء استمرارية هذا النظام المفلس، من معيار اقتصاد أي مجتمع سلم. فالنظام الاقتصادي في لبنان، كما النظام السياسي، نظام إدارة للأزمات التي يولدها.
وهنا ينبغي الفصل بين مستويين اجتماعيين. عند الناس، يجهد الإعلام الحريري وإعلام النظام عامةً في عرض الاحتفال بسوليدير والمصارف، وكأن للنظام القائم بطولاته، للتغطية على فعل جريمة النظام الاقتصادية. ولا يمكن الجزم بتفاصيل فعالية هذا الخطاب على الأرض الاجتماعية، في مدى شعبيته عند بعض أوساط المجتمع، بل يجوز افتراضه فعالاً عند الجمهور الناخب للحريرية. وأسباب اقتناع هذا الجمهور عديدة، لن نفصلها الآن، لكنها حتماً تختلف عن أسباب السياسيين والاقتصاديين الحريريين. عند السياسيين والاقتصاديين، المسألة تختلف. فهؤلاء من المفروض أنهم درسوا نماذج اقتصادية مختلفة، ودرسوا السوابق القانونية للسياسات على اختلافها، وجلهم من البرجوازية المدللة التي استحصلت على شهاداتها في الخارج، ومن المفترض أن لديهم نظرة مقارنة للأمور، ومع ذلك، هم ما زالوا يصدقون على سير الأمور الاقتصادية كما هي عليه. وكما في النموذج الذي سبق عرضه في اجتماع اللجان المشتركة، لا شك بأن عند معظم هؤلاء نظرة فوقية للمجتمع، بحكم مهنتهم طبعاً ومرفقة بصورتها وما تحتويه من عناوين النجاح الاجتماعي، لكن، على مستوى أعمق من ذلك، وخلف الأرقام والعمليات الحسابية واللغة البيروقراطية، ماذا يدور في رؤوسهم؟ هل يتخيلون بيوتاً؟ أم ناساً؟ أم سياسيين تلفزيونيين يجب مراعاتهم؟ ولنكن واضحين، الفساد الإداري لا يكلّف الدولة شيئاً مقارنةً بخدمة الدين. وعندما يقرر هؤلاء زيادة قيمة ضريبة ما على ذوي الدخل المحدود، مثلما ينوون إمراره أخيراً في مشروع الموازنة، أو مصادرة بيت، هل تبدأ معالم صورة ما بالظهور من وراء ضباب التجريد؟ ثم عندما يحسمون قرارهم، ماذا يقولون لأنفسهم؟ فلـ«تصطفل» الناس؟ هم ربما يتخيلون الناس كالقردة: إذا اقتلعت شجرتها، لا مشكلة، فهي قادرةٌ على أن تقفز إلى شجرة أخرى.

ليس في لبنان عنصرية، بل في لبنان نظام عنصري. والطائفية هي قشرته الأخيرة
هكذا هي الحريرية، والعقيدة الاقتصادوية التي أرستها، والقائلة بأولويات ليست بالضرورة بأولوية في الأخلاق وفي ما تدعيه الحريرية في خطابها السياسي. فالعنصرية الحريرية مثلاً، ونرى ذلك كثيراً في شكاوى اقتصادييها، تتذمر من الأحزاب الريعية الطابع، المطالبة بصرف أموال أكثر في وزاراتها. حتى أن الحريرية أصبحت تدين أي نهج مختلف في وزاراتها وكأنه نهج ريعي، حتى لو لم يكن كذلك. نرى ذلك في مقالات اقتصادييها وصحفها في الأسابيع الأخيرة المتذمرة من نفقات الوزير «العوني» المخططة لشركة الكهرباء («النهار» مثلاً، في صفحتها الأولى في تاريخ ١ آذار ٢٠١٠، لا تذكر زيادة في النفقات سوى في الكهرباء). فالهدف، في الخطاب الاقتصادوي الحريري، ليس انتقاد التطفل، ورفيق الحريري وابنه سعد لم يحصلا على أغلبية نيابية ووزارية إلا بفضل الطفيليات. إنما الهدف تثبيت منطق أولويات، تعني توزيع الأموال في البلاد. والأحزاب الريعية تشترك والحريرية في هذه النظرة العنصرية، لأنها في النهاية تسلّم بأولويات الحريرية الاقتصادية، وترى موقع الحماية عن ناسها محفوظاً فقط في التطفل على الإدارة. وليس في قلب النظام رأساً على عقب. هي ربما ترى ناسها لا يستحقون أكثر، مقارنة بغيرهم. وليس صدفةً أن نرى بعض قيادات الأحزاب الطفيلية، على امتداد «الطوائف»، مشاركة في الصفقات الاقتصادية الكبرى. وليكن واضحاً أن الجالس على شرفة قصره الراس ــــ بيروتي، المطلة على رأس بيروت والبحر، أو على الأوزاعي والبحر، لا يختلف كثيراً عن المستعبد الأبيض، الملاك، الجالس على عتبة قصره المشرف على حقول القطن، حيث يجهد «عبيده» في العمل، ومنظر الفضاء القاري الأميركي من حولهم. الرومانسية هي نفسها. وللكلام تتمة.
* كاتب لبناني