د. صالح عبد الجواد * كثيرون كتبوا عن «فضيحة» رفيق الحسيني. يكفي أن تضع اسم الرجل على محرّك البحث «غوغل» لتجد كمّاً من المقالات والتعليقات والآراء. تحوّل الموضوع في حومة الجدل المسيس والمشحون وأحياناً التافه والهابط إلى موضوع فضائح وتندّر، وقيل وقال، كأنه استجابة لأهداف من قرر التصوير والنشر. غاب المغزى الرئيسي للحدث وهو كيف أفرزت أوسلو ونظامها بتسارع، ولكن بتواصل وامتداد مع نظام الفاكهاني وتونس، أوراماً وخلايا سرطانية تنهش الجسد الفلسطيني متجاوزة كل الخطوط الحمراء. في البداية، دعونا نتفق على مجموعة من القضايا:
أولاً، من كان منطلقه في النقاش انتماء الرجل «لجماعة أوسلو ومؤسسة الرئاسة الفلسطينية»، فهو محكوم سلفاً بالتجريم، لم يجانبه الصواب. فما حدث لرفيق الحسيني يمكن أن يحدث لأشخاص من اتجاهات سياسية مختلفة. والفضيحة مسّت بالشعب الفلسطيني ككل وأطلقت تداعيات قرف ويأس لم أرَ لها مثيلاً من قبل. من سجّل صور رفيق الحسيني وهو يخلع ملابسه، وأصر على نشرها، مسّ بالكرامة الوطنية. أنا لا أعرف الحسيني وقد أتعاطف أو لا أتعاطف مع موقعه، ولكن الموقف الذي وجد نفسه فيه، أشعرني بالحزن والغضب، عريه كان عرياً للفلسطينيين أجمعين. بيت القصيد هنا ليس فضح شخصية عامة قُبض عليها وهي تخلع سروالها، بل هل يسمح لأي كان بالتجسس على الحياة الشخصية للمواطنين، وهل من المسموح بناء نظام يهدف إلى ابتزاز الناس وإسقاطهم بدلاً من السهر على أمنهم.
كان النازيون يصرّون على أن يخلع ضحاياهم ملابسهم أمام بقية الضحايا والجلادين. العري مرحلة مهمة في امتهان كرامة الخصوم وإشعارهم بالدونية والعجز لإعدادهم للانهيار. هذا هو الدرس من طوابير الفحص في أوشفتز إلى كرامة الرجال الممرغة في أبو غريب أمام ساقطات الجيش الأميركي. تعرية السجناء والمعتقلين سلوك شائع في أقبية التحقيق الإسرائيلية. من المذهل كيف يستبطن الضحية الأساليب القذرة لجلاديه ويعيد إنتاجها. تبنّت مؤسسة الشاباك أساليب الغستابو وطبّقتها على ضحاياها الفلسطينيين. بعض هؤلاء «الضحايا» الفلسطينيين يحاولون اليوم بدورهم تطبيق ما تعلموه... ولكن على رجال ونساء من شعبهم.
ثانياً، نحن لا نتحدث عن حالة فردية، بل نتحدث عن «ظاهرة أشرطة فاضحة» لرموز من السلطة. فشريط رفيق الحسيني يؤكد مزاعم «حماس» عثورها على أشرطة فاضحة لشخصيات فلسطينية من السلطة بهدف ابتزازها، وذلك عندما استولت على مقارّ الأجهزة الأمنية في غزة. في العادة تمتنع الدول وحركات التحرر عن هذه الممارسات، فهناك قواعد في لعبة السياسة والسلطة يجب أن تراعى، مثل تلك القواعد التي تراعى في لعبة الملاكمة والتي تحرّم الضربات «تحت الزنار». ولكن في الحالات الشاذة، وعندما يحصل ذلك بناءً على أوامر قيادات أمنية مريضة نفسياً وأخلاقياً (على سبيل المثال هوفر مدير FBI) فإنها تكون موجّهة نحو المعارضين لأسباب سياسية. في الحالة الفلسطينية هدف عملية الابتزاز كان على الأغلب السيطرة والصراع على الغنائم لا حماية النظام، بغضّ النظر عن طبيعة هذا النظام وشرعيته. وجدير بالملاحظة هنا أن «حماس»، التي كانت تستطيع توظيف الأشرطة التي عثرت عليها في معركتها ضد السلطة، لم تضعف أمام هذا الإغراء، إذ فهمت أن ذلك يخرج عن نطاق الشرع الإسلامي الذي يحظر التجسس على الناس داخل بيوتهم، وكذلك نطاق القيم والعادات والأعراف الحميدة لشعبنا.
كان يمكن الحسيني أن يَخضَع ليصبح أداة طيعة في يد مسقطيه. الرجل رفض الاستسلام
ثالثاً، إذا كان شخص بمكانة رفيق الحسيني وموقعه معرّضاً لمثل هذه الأعمال، فمن يحمي المواطن البسيط أو المواطنة العادية من غائلة هذه الأعمال المشينة؟ تدور أحاديث وشائعات في الشارع عن استغلال قلة قليلة من رجال الأمن المتنفذين مواقعهم من أجل الحصول على خدمات جنسية. ليست لدي معطيات تسمح بنفي هذه الشائعات أو تأكيدها. ولكن هذا خط أحمر لم تتجاوزه حتى الاستخبارات الإسرائيلية. نحن بحاجة إذاً للجنة تحقيق محايدة تنطلق من موضوع رفيق الحسيني لتحقق في مهمات تدخّل أفراد أو جهات أو أجهزة في الحياة الشخصية لمواطنين، وحدود ذلك وأساليبه، بهدف تحقيق مصالح شخصية، وتخضع هذه الأجهزة بدورها لرقابة حكومية رشيدة. وهذا إجراء ضروري يصب في مصلحة السلطة نفسها قبل أن يصب في حماية المجتمع الأهلي.
رابعاً، الهدف من عملية التصوير ليس مكافحة الفساد، بل تعميم الفساد بأبشع صوره. «إسقاط» رفيق الحسيني ليكون أداة طيعة في يد «صاحب» الجهاز الذي صوّره. نحن لا نعرف ماذا أراد منه مسقطوه، فهناك الكثير من الشائعات ومن الصعب التحقق من صحتها، وبعضها يطلقه، من دون شك، مهندسو الفضيحة. لكن الأمر الأكيد أنه كان يمكن رفيق الحسيني أن يَخضَع ليصبح أداة طيعة في يد مسقطيه. الرجل رفض الاستسلام. وفي هذا بعض الشجاعة، إذ إنه علم في اللحظة التي رفض فيها الانصياع أنه سيدفع الثمن غالياً، لكنه فضّل أن يدفع هذا الثمن من شخصه بدلاً من أن يسكت ويدفع لهم من الإمكانيات والأسرار التي توفرها وظيفته. من الضروري أن يكون لأي شخص يخضع للابتزاز خيار غير خيار السقوط في براثن مسقطيه. يجب أن نراعي هذه القاعدة فهي الوحيدة الكفيلة بقلب السحر على الساحر.
خامساً، لسبب ما أعطت إسرائيل الضوء الأخضر في زمان محدد لنشر ما نُشر. إسرائيل تعرف كل سراديب فساد الفاسدين ومجاهله، قبل أوسلو وبعده، وهي من البديهي أن تتغاضى عن «فسادنا» وتشجعه، موقف يليق بأي طرف ضد أعدائه «الأزليين». فالفساد ينخر المجتمعات نخراً، وفساد بهذا الحجم والعمق كان أساسياً في ضمان وصول منظمة التحرير الفلسطينية لمرحلة أوسلو وما يحضر لتفسخ المجتمع الفلسطيني (أو تسريع هذا التفسخ). إذاً لماذا قررت إسرائيل توفير حماية لنشر صور الفضيحة في هذا الوقت بالذات، وهي كما قلنا في حوزتها الكثير مما صُوّر وسُجّل ووُثّق، أكان بتخطيط وإيعاز منها أم بمبادرة على يد «تلامذتها» الميامين؟
ضمن دائرة الاجتهاد والتكهن المستند إلى أدلة ظرفية تحتمل الخطأ والصواب، سنجيب عن هذا السؤال بأسئلة أخرى؛ هل كان المقصود هنا لي ذراع أبو مازن الذي حرد على المفاوضات من خلال مساعده ورئيس ديوانه رفيق الحسيني؟ الجميع يعرف سعيَ إسرائيل لتجديد المسرحية المسماة زوراً وبهتاناً «عملية السلام» التي تعرض على المسرح الدولي منذ عقود (لعلها تفوقت على عرض مسرحية شبح الأوبرا). مثّلت هذه المسرحية وتمثّل غطاءً لتمرير كل الآثام. وأهمية المسرحية تزداد اليوم أكثر من أي وقت مضى بوصفها تمثّل بيئة وديكوراً لا بد منه لحشد المواقف الدولية ضد خندق إيران وحلفائها في المنطقة، وفي تخفيف الضغط على إسرائيل دولياً وتدعيم اقتصادها الوطني حسبما أشار محافظ بنك إسرائيل الجديد.
سادساً، من ناحية رفيق الحسيني، من المحزن ألا ينتبه بعض الناس إلى أن حياتهم الشخصية لا تصبح ملكهم في اللحظة التي يتحوّلون فيها إلى شخصية عامة. من الضروري أن تأخذ لجنة التحقيق هذه المسألة بالاعتبار عندما تنظر في هذه القضية (هذا إذا نظرت)؛ لكن تجريم رفيق الحسيني أو تبرئته في ما يتعلق بمسؤوليته الشخصية، يكمنان في الإجابة عن سؤالين: هل مارس رفيق الحسيني ضغوطاً معينة على امرأة فلسطينية بريئة مستغلاً السلطة التي توفرها وظيفته للحصول على خدمات جنسية منها؟ في هذه الحالة يجب أن يدفع الحسيني ثمناً غالياً: قصاصُ فيه عبرة لأولي الألباب. أم أنه أُغويَ واستُدرج إلى فخ نصبته هذه المرأة؟ (من عائلة محترمة ووالدها الراحل مناضل كبير) التي كانت بدورها قد أُسقطت على يد أناس لا تعرف قلوبهم الرحمة، يحوّلون فتيات فلسطين ونساءها إلى عاهرات في خدمتهم؟ في هذه الحالة من يجب أن يدفع الثمن هو من دفع إلى نصب هذا الفخ.
* عميد كلية الحقوق في جامعة بيرزيت