من أمام شمس نُصب التحرير في قلب بغداد نقف أمام القصة التعبيريّة لمفهوم الثورة في مُتحَف الذاكرة العراقيّة، تلك الحكاية التي تصنعها اليد السمراء التي تحمل المِنجَل؛ لتغوص في أرض السواد، والجنديّ الذي يقف لحظات الحداد على النخلة التي قُطِع رأسها؛ لتكون مقصلة رأسه. حكايا المقابر الجماعيّة التي ضمَّت شباباً بعمر الوُرُود، وأمام باب سجَّان العمر، المملوء بشظايا الحرب في المطامير التي تصرخ فيها الأمهات بالآهات الجنوبيّة الحزينة، بالغزل المُوشَّح بالألم.
لوحة الوجع العراقيّ ترسم صفحات تاريخ العراق، بعُصُوره المُتعدِّدة، بحفريّاته الأنثروبولوجيّة، وإسقاطاته الاجتماعيّة التي لن تجد لها مثيلاً، وكأنَّ عناصر الجماهير العراقيّة قد حفرت تميُّزها، وانفرادها الاستثنائيَّ العجيب عن كلِّ تجارب العالم المُختلِفة. تجربة مجنونة، مُتغيِّرة، مُتسارِعة تعيش قصص الحزن المرير، والسعادة السريعة، بكلِّ هذيانها الاجتماعيِّ، تقف أمام تجربة لن تكفيها دراسات علماء الاجتماع (علي الوردي، وعبد الجليل الطاهر) من خُصُوصيّة عراقيّتهم، ولا دراسات (ماكس فيبر، وسيغموند فرويد، وغوستاف لوبون) بعالميّتهم؛ في مُحاوَلة فهم نمطيّة الجماهير العراقيّة.
وإذا كانت التجربة الاجتماعيّة تُولَد من رحم التاريخ، فإنَّ التراكم التاريخي في تجربة الجماهير العراقيّة ليس لها مثيل في العالم، منذ فجر الحضارة البشريّة، حيث مولد الحضارة الإنسانيّة قبل 6000 سنة على ناصية أهوار الناصريّة، والعمارة جنوب العراق، وأمام أعظم إنجاز قانونيٍّ عبر مسلّة حمورابي التي كُتِبت في العراق قبل 3000 سنة، وهي أوَّل تشريع يتحدَّث عن القانون الجزائيِّ، وحقوق المرأة، وحقّ التعليم في العالم، بل إنَّ أوَّل برلمان في العالم كان في العراق، في عام 3000 ق.م، كما يذكر ذلك صموئيل كريمر في كتابه (History Begins at Sumer)، حينما قال: «إنَّ أوَّل برلمان معروف في تاريخ الإنسان قد شُكِّل في حُدُود 3000 قبل الميلاد، وكان يتكوَّن من مجلسين: مجلس الشيوخ، ومجلس العُمُوم... لا تعتقدوا أننا في عصر الجمهوريّة الرومانيّة، كلا، نحن في الشرق الأدنى، قبل ألفي عام من ولادة الديمقراطيّة الإغريقيّة». (في الجزء المُسمَّى جنوب العراق حاليّاً).

التراكم التاريخي في تجربة الجماهير العراقيّة ليس له مثيل في العالم
هذا الجنوب المحروم، الذي أطلق لاحقاً شرارة انتفاضة 1991، من عمق البصرة. يبدو أنَّ البصرة تُشعِل الشرارة مرّة أخرى عبر بو عزيزي العراق (منتظر علي غني الحلفيّ) أطلق شرارة احتجاجات الإصلاح 2015.
أمام هذا الزخم الحضاريّ كانت قصص الثورات، والاحتجاجات، والتحوُّلات ذات استقطابات حادّة. كانت للشعب العراقي قصة مُميَّزة، أغلق الأصدقاء عنها آذانهم، عن سماع قصة الربيع العراقيِّ عام 1991، الذي سبق «ربيع» العرب المُزيَّف بسنوات، عندما قامت هناك قصة الثورة التي، وُئِدت بهستريا عفلق، وذبذبات الهوس السلطويِّ، المدعوم بعرض سينمائيٍّ مجّانيٍّ لطائرات العمّ سام، وهي تُشاهِد مذابح الربيع العراقيِّ اليتيم. سنوات مُرّة، وصرخات ساحة التحرير تتجدَّد، واللون الاحتجاجيّ المُميَّز يدعو لإصلاح ما أفسدته العمليّة السياسيّة العرجاء، وأفشله مُراهِقو السياسة لسنوات، عبر دستور كان أقرب إلى وثيقة سلم أهليّ ممّا هو خريطة عمل لاستراتيجيّة بناء دولة، على الرغم من أنَّ البعض قرأ تلك الاحتجاجات بأنّها تجعل الضباب كثيفاً أمام المعركة المصيريّة، في مُواجَهة تنظيم «داعش»، أو فسَّر ذلك الآخرون، كما حصل في لبنان عبر تظاهَرات النفايات، ولكن يبدو أنَّ علم الجماهير العراقيّة له زخم آخر في مدياته الميدانيّة.
يُمكِن لنا أن نُسجِّل أهمَّ ميزات الجماهير العراقيّة:
- خُرُوج السياق العراقيِّ المُتمرِّد مُستمِرّ بحكم التاريخ، ولكن ليس بالضرورة أن يكون مُعلَناً، بحكم النكسات المُستمِرّة، وموجات العنف المُدوَّرة، إلا أنَّ الجديد هو التحوُّل الاجتماعيُّ في تطبيقاته العمليّة.
- يقول علماء الاجتماع: إنَّ الجيل الواحد لا يتحمّل أكثر من نكسة، ولكن أثبت جيل الشباب التسعينيّ القدرة على الخُرُوج، والتمايُز، والخُرُوج عن الظاهرة الصوتيّة، وفي المقابل كان جيل الثمانينات، والسبعينات هو الأقدر على مسك القيادة في توجيه شعارات الاحتجاجات.
- واحدة من أهمِّ الإشكاليّات، في علم الجماهير العراقيّة، هو ضياع الأولويّات: مسبحة القاضي التي فرط عقدها، أم وقود الفرن الذي يطبخ فيه رغيف الحياة. يبدو هذه المرّة أن العراقيَّ حسم أمره في صيف سياسيٍّ ساخن، انتفض فيه على مارد الفساد.
- الحالة الفرديّة العراقيّة ليست مُتشابهة، بقدر ما تتفق على سمات مُعيَّنة؛ بحكم التنوُّع الاجتماعيِّ، ولكنها تتميَّز بأنها دخلت في جمهور مُحدَّد، تتخذ سمات خاصة بها غير موجودة في السابق، أو أنها موجودة، ولكنه لم يكن يجرؤ على البوح بها، أو التعبير عنها بمثل هذه الصراحة والقوة، وهذا منطق طبيعيّ تتميَّز بها سيكولوجيا الجماهير بشكل عامّ.
- الجماهير العراقيّة، وإن تعرَّضت لموجات زلزال طائفيٍّ في صميم بناها الاجتماعيّة، لكنها ترفض رفضاً باتاً الحديث العلنيَّ عن الطائفيّة، وتفاصيلها، خُصُوصاً عندما تأتي من دول أخرى؛ لذا مزجت الاحتجاجات الأخيرة بألوان مُتعدِّدة، تعالت فيها عن أمواج الطائفيّة التي تجتاح المنطقة.
– تحوّل المُجتمَع العراقيِّ من ظاهرة المُجتمَع الافتراضيِّ في «فايسبوك» الذي تتكاثر فيه التعليقات، والتحشيد الإلكترونيّ، إلى ظاهرة فعليّة توجد في طقس لا يتحمَّله بشر بدرجة حرارة تصل إلى 60 درجة مئويّة.
- جدليّة الاحتجاجات بين العلمانيِّين والليبراليِّين والإسلاميِّين. في المقابل مواقف المرجعيّة الدينيّة الصريحة، والدّاعمة للاحتجاجات، وإن كانت بعض الاتجاهات السياسيّة، حملت شعار الدولة المَدَنيّة (لم يكن بقناعة خالصة، إنما ردّة فعل على سلوك الأحزاب الإسلامية، وهم مُحِقون، لأنَّ تلك الأحزاب المُتأسلِمة فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة الدولة). ولكن يبدو أنَّ المشروع العراقيَّ، حتى الليبراليّ منه، وليد البيئة العراقيّة غائب تماماً، وحالة التصحيح الفكريّ والاجتماعيّ لمُواجَهة القوالب الجاهزة المُستورَدة ما زالت بحاجة إلى تأصيل، وبات المُجتمَع يعيش (الأنثروبولوجيا المقلوبة). أحزاب علمانيّة تسلك سُلوكاً إسلاميّاً، وإسلامية تسلك سلوكاً علمانيّاً، وحيث افتقار مبدأ الوحدة في ترابط الأفكار والمعاني، وفقدان التناسق، أو التساوق في المعلومات. ويكفي أن نقرأ (برامج المُؤتمَرات السابقة للتأسيس أيّام المُعارَضة لتلك الأحزاب مُقارَنة باليوم) لنكتشف بعض مظاهر الشيزوفرينيا السياسيّة، فالليبراليّون لا يُمكِن القول إنهم حققوا شيئاً، في المقابل لا يُنكِر العلمانيّون أنَّ صناعة تلك التظاهرات كانت المُؤسَّسة الدينيّة في النجف اللاعب الأهمَّ في دعمها، ومنحها الشرعيّة، وإن حاولوا قدر الإمكان عدم التصريح بذلك، والإبقاء على شعارات الحشد المَدَنيّ.
- اهتمام الجماهير العراقيّة، بشكل عامّ، بمُختلِف الاهتمامات. وكما يقول المُستشرق الفرنسيّ الشهير غوستاف لوبون Gustave Le Bon في كتابه «سايكولوجيا الجماهير»: «إنَّ الجماهير مجنونة بطبيعتها، فالجماهير التي تُصفِّق بحماسة شديدة لمُطربها المُفضَّل، أو لفريق كرة القدم الذي تؤيِّده، تعيش لحظة هلوسة وجنون، والجماهير المُهتاجة التي تهجم على شخص لكي تذبحه، من دون أن تتأكد من أنه هو المُذنِب، هي مجنونة أيضاً، فإذا ما أحبَّت الجماهير ديناً ما، أو رجلاً ما، تبعته حتى الموت كما يفعل اليهود مع نبيِّهم، والمسيحيّون المُتعصِّبون وراء رهبانهم، والمُسلِمون وراء شُيُوخهم. والجماهير اليوم تحرق ما كانت قد عبدته بالأمس، وتُغيِّر أفكارها كما تُغيِّر قمصانها). هذه المُفارَقات ليست بالبعيدة عن الظاهرة العراقيّة، التي تجب دراستها بشكل علميٍّ دقيق، بعيداً من أيّ مُيُول تفسيريّة.
- الصراع السياسيّ في حلبات التحشيد الإلكترونيِّ ما زال على أوجه، خُصُوصاً أنَّ الجماهير غير ميّالة كثيراً للتأمُّل، وغير مُؤهَّلة للمحاكمة العقليّة، ولكنها مُؤهَّلة جدّاً للانخراط في المُمارَسة، والعمل. والتنظيم الحاليّ يجعل قوتها ضخمة جدّاً؛ لذا فإنَّ «الفوتوشوب» السياسيَّ يصنع أحياناً معارك وهميّة، تحاول إبعاد الفكرة الرئيسة عن هدفها الرئيس.
- الجماهيريّة العراقيّة أنموذج مُميَّز ومُنفرد، مثل حالة السياسة العراقيّة، تعيش داخل صندوق أسود مُغلَق. تجربة خاصة، لن تنفع في فكِّ شيفرتها كلُّ نظريّات الدولة لأرسطو، أو أفلاطون، أو عقديّات جان جاك روسو، أو هوبز، أو جون لوك. غير خاضعة لمنطق نظريّات الحكم لهيغل، وتفسيرات ابن خلدون، ولا مفاصل مونتسيكيو، ولا براغماتيّات ميكافيلي. إنّها خارج مقاسات النظريّات في العلوم السياسيّة بكلِّ تجلياتها النظريّة، والتطبيقيّة. قصة تعجز كلُّ روايات قِصّة الحضارة أن تحكي تجربتها. مصاديق لم تعِشها نظم سياسيّة حلت في عالم ذات يوم. تداخلات ورُمُوز ومُعادَلات لم تُسجَّل في ذاكرة الرياضيّات السياسيّة. هندسة اجتماعيّة مُثبتة على براهين ذات طبيعة مقلوبة، لم تخطر على بال ماكس فيبر ذات يوم. علمانيوها لم يعرفوا من (فولتير، ولينكولن، وماركس) إلا الاسم، وإسلاميوها لم يعرفوا من (الإمام الخمينيّ، والصدر، وشمس الدين، وفضل الله) إلا الصُوَر. لكن ثمّة أمل بأنَّ مشرط الجراح يُوقِف نزيف الفساد بضماد صُنِع في العراق، وما زلنا بانتظار استئصال الورم من جسد حبيبنا الذي عشقناه.
* مُدير مركز بلادي للدراسات
والأبحاث الاستراتيجيّة ــ العراق