إيلي شلهوبمظاهر تنكّر الإنسان لطبيعته الإنسانية متعددة، لعل أبرزها تجاهل مآسي الآخرين من بني جنسه. تحييد نفسه عنها. تجاهلها. دفعها إلى عمق اللاوعي للحد الذي تصبح فيه كأنها غير موجودة، وإن صدف أن وجدها أمامه، على شكل صور تلفزيونية مثلاً، يغيّر المحطة، كأن شيئاً لم يكن.
لكن الأشد إيلاماً تعوّد المرء على مآسي الآخرين والتعامل معها على أنها وضع طبيعي لا يستدعي أي ردة فعل. كأن يبقي صديقنا في الفقرة السابقة التلفزيون على القناة نفسها ويكمل حياته اعتيادياً. والأفظع أن يستمتع بما يشاهده ويطلب المزيد.
من المشاهد المتلفزة تلك، ما تنقله الفضائيات نقلاً شبه يومي من قطاع غزة، الذي يشهد، باعتراف الجميع، واحدة من أشد مآسي القرن إيلاماً. شعب يتجاوز في تعداده مليوناً ونصف مليون نسمة، بينهم مئات الآلاف من الأطفال والشيوخ، يعيش منذ نحو أربع سنوات في ظل أبشع أنواع الحصار لأكبر سجن في العالم. لا ماء ولا غذاء ولا دواء ولا مأوى ولا مستشفيات (أصبحت مجرد أبنية) ولا كهرباء و... ولا من يهتم. حتى في أوج العدوان، عندما كانت حمم النار تتساقط كالمطر على الأجساد الطرية في المنازل الآمنة، كان التآمر والتواطؤ، الذي بلغ حد الشراكة في الجريمة، السمة البارزة.
وكلمة «يعيش» في توصيف حال سكان القطاع غير دقيقة، أو على الأقل لا تعني الوجه الإيجابي فيها أي فعل «الحياة»، بقدر ما تعني البقاء نكاية بالموت، الذي يتجسّد بالاحتلال، أو تحدياً له، علماً بأن للموت في غزة حكاية، تتجلى أبهى صورها في أعراس الشهداء التي لم تنقطع يوماً.
هكذا، بكل بساطة، تحولت مأساة الغزيين إلى قضية منسية تحتاج كل فترة وأخرى إلى سفينة حرية أو حتى أسطول، لتذكير العالم بها، لمخاطبة ضميره الذي يبدو واضحاً أنه لفظ أنفاسه الأخيرة قبل عقود من الزمن، يوم كانت القضية الفلسطينية برمّتها مأساة منسية احتاجت بين الفينة والأخرى إلى عملية خطف طائرة هنا وعملية فدائية هناك لتحقيق الغاية نفسها.
نشطاء من أكثر من مكان على وجه البسيطة يحملون دماءهم على أكفّهم. يواجهون المحتل الإسرائيلي. يتحدون سلاحه وغطرسته، في مغامرة غير مضمونة النتائج تستهدف ملامسة أراضي غزة في محاولة رمزية لكسر الحصار المفروض على القطاع.
اللافت في مغامرة اليوم هذا الغطاء التركي غير المسبوق، ممثلاً في الدعم السياسي واللوجستي الرسمي، مع المشاركة البشرية الكبيرة والمتابعة الإعلامية اللصيقة. تحرك يأتي في سياق أوسع كان قد أطلقه أردوغان في دافوس، يوم نَهَرَ شمعون بيريز دفاعاً عن فلسطين بحضور عمرو موسى الذي ظل جالساً يستدفئ ببان كي مون. مرة جديدة تثبت تركيا ـــــ أردوغان كيف انتزعت زعامة العالم العربي من السعودية ومصر.
وبالحديث عن آل سعود، لا بد من التأكيد أن اهتماماتهم الآن في مكان آخر، أكثر التصاقاً بمصالحهم المباشرة، بعيداً عن فلسطين وقضيتها، وخاصة بعدما لزّموها لآل مبارك. وما أدراك من هم آل مبارك. معبر رفح المقفل والعمليات المنهجية في تدمير الأنفاق وقتل العمال فيها، لا تزال شاهدة على عروبتهم وإنسانيتهم. كذلك حال اصطيادهم للصيادين الفلسطينيين. المهم الحفاظ على رضى «الصديق الإسرائيلي» و«صديق صديقه» لضمان انتقال سلس للسلطة من الأب إلى الابن. وما العنتريات المصرية، وبينها تصريحات أبو الغيط قبل أسابيع في بيروت عن المقاومة وسوريا، سوى رسالة إلى «الصديق الأميركي»، الذي تزايدت انتقاداته ومطالبه المتعلقة بالوضع الداخلي المصري، تفيد بأن نظام مبارك لا يزال يمتلك هامشاً للمناورة يمكن توسيعه والاستفادة منه.
لكن يبقى كل هؤلاء في كفة، وفلسطينيو الضفة والشتات في كفة أخرى. لا يُعقل أن تصل الخلافات الفصائلية إلى الحد الذي تنفصل فيه روابط الدم، ويرضى الشقيق لشقيقه بالجوع والمرض والتشرد. كل الحكايات عما فعلته السلطة، من مطالبات بتدمير غزة وسحقها لإنهاء وجود «حماس» فيها، أمر يبدو مقبولاً ومنطقياً، برغم فظاعته. لكن ابن الضفة. المواطن العادي. الأب. الأم. الأخ (ت). الابن (ة). الشقيق (ة). الزوج (ة)... أين هو مما يجري في القطاع؟ كذلك الأمر بالنسبة إلى أبناء تلك الأمة العربية التي يتشدق بها كثيرون، هي ومعها الأمة الإسلامية.
يصعب على المرء أن يصدّق أن كل هؤلاء متواطئون على غزة وأطفالها وشيوخها، كما سبق أن فعلوا مع لبنان وجنوبه. إنهم ملّوا من المآسي. ملّوا من الكفاح والنضال لاستعادة الحقوق. بل ملّوا من معجم حقبة الستينيات والسبعينيات، بكل مصطلحاته. إنهم أصبحوا من «محبي الحياة»، ولو كانت ذليلة. من الباحثين عن لحظة متعة، ولو كانت في بحر من الدماء.
يصعب على المرء أن يصدق أن كل هؤلاء أصبحوا من الذين يغيّرون القناة التلفزيونية، بل يبقونها حيث هي، ويمضون في حياتهم وكأن شيئاً لم يكن.