لا يزال رأس المال هو مدير، أو مايسترو العالم. يُدير كلّ شيء، من لقمة الخبز حتى المصنع والمسجد والبندقية والبغاء والغباء كذلك. فالعالم منذ نهايات حقبة الإمبريالية، ومن ثمّ حقبة العولمة الجارية، مقود بتحالف طبقي على صعيد هذا الكوكب، الذي غدا كرة يضربها رأس المال بقدمه المسمومة، فتستقرّ في أهداف الفقراء. مقودة بتحالف:ــ رأسمالية المركز، وخاصة الولايات المتحدة، ملخصة في الشركات العابرة للقوميات، بما لها من نشاطات تجارة سلع مدنية عسكرية وبشرية، (جنس، وإرهاب) كذلك.

ـ ورأسمالية المحيط (الكمبرادور خاصة) كشريك وضيع، وتابع للرأسمالية في المركز.
رأسمالية المحيط ليست شريكاً حقيقياً، وليست شريكاً وطنياً ولا إنسانياً، هي شريك عميل وخائن، على المستويين الوطني والإنساني. فهي تضحي بوطنها بإخضاعه للرأسمال الغربي. وبالتالي ليست المشكلة في كونها متعلمة، مثقفة وواعية أو لا، بل في كونها لا وطنية، وهذا أخطر. أما حين يجاملنا الاقتصاديون اليساريون في الغرب بالقول: «إنّ دول المركز تستغل أمم المحيط، فهذا ليس دقيقاً. لا يمكن أن يكون الاستغلال الواقع على عمال المحيط واقعاً، بأي مستوى، على الملك سلمان وسعد الحريري وعمرو موسى والشيخة موزة ويوسف القرضاوي... الخ.
يتحرّك رأس المال في كلّ بقعة من العالم، ضمن مستويات الصناعة والتجارة (بأنواعها ومجالاتها) والمال، بسرعة وسهولة. وتتحرك شخوصه طبعاً.
الشركات الأميركية، وكثير من الغربية، تَنْقل مراكز إنتاجها إلى المحيط، بما فيه الصين، وتدفع أقل أجرة ممكنة، وهذا مصدر ربحها الحقيقي، ثمّ تربح ببيع هذه السلع في المركز بأسعار مجدية جداً. تتنقل رؤوس أموال هذه الشركات وسلعها بسهولة، بل يتمّ استدعاؤها واستجداؤها على شكل استثمار أجنبي مباشر، أو غير مباشر، وهي في حقيقتها عملية استغلال، وتجريف لثروات المحيط. إنه تنقّل سهل، كما يتنقل من تزوج اثنتين، بمنطق ذكوري مطلق، من مخدع هذه إلى مخدع تلك، وفي المخدعين يُقال له «شكراً سيدي... بوركت». ثم يصطف هو، وهنّ، للصلاة تحت زعم المساواة!.
معظم قوة العمل الصناعية في العالم اليوم هي في المحيط، بل 80% من قوة العمل هذه (مونثلي ريفيو عدد تموز 2015) والعمّال هناك يتقاضون أجوراً ضئيلة.

لا حراك حرّ في هذا العالم لغير رأس المال والرأسماليين

لكن العمال أنفسهم لا يمكنهم التنقل مثل السلع، أو التحويلات المالية، التي ينقلها «الجن» في لحظات من بلد إلى آخر بأرقام فلكية. لذا، تقول الشركات، إذا لم يأت العمال إلى المركز، نذهب نحن إلى المحيط (إذا لم يأت محمد إلى الجبل يذهب الجبل إلى محمد). بل يجب ألا يأتي العمال إلى المركز، سنذهب لامتصاص دمهم هناك، كي لا يموتوا هنا، فتصاب مقابر العرق الأبيض بالزكام! إلى جانب ذلك، الهجرات من المحيط إلى المركز ممنوعة، فليست فقط قوة العمل الممنوعة من التنقل. لا حراك حرّ في هذا العالم لغير رأس المال، والرأسماليين، ولأنّ رأس المال يتحكّم في العالم، فقد فتح طريقاً خاصاً لحراك استثنائي لقوة العمل.
يسمح رأس المال بحراك عمّال إلى خليج النفط، حيث يتمّ استجلاب عمالة رخيصة لأعمال سيئة، سوداء، رخيصة، قاسية، جنسية، خدماتية لا إنتاجية في أغلبها. وهي تحلّ محلّ قوة عمل محلية يتمّ تخزينها، وتثقيفها بالإرهاب كي تفجّر الوطن العربي. عجيب، هذا هو الاستشناء الوحيد في الاقتصاد العالمي الذي يسمح بحراك العمّال، بل باستجلابهم كقطعان.
هذا الاستثناء يشمل نوعين من حراك، أو نقل العمّال، لا تنقّلهم:
ــ تسليع قوة عمل بجلبها إلى الخليج بشكل عبودي وبالملايين.
ــ حراك الإرهاب. والإرهاب ما دام رأس المال يحركه فهو إذاً جزء من رأسمال الرأسماليين، سواء في المركز أو المحيط. تحريك قوة عمل عاطلة، لتكون جيش العمل الاحتياطي للإرهاب، وخاصّة ضدّ الجمهوريات العربية.
رأس المال الإرهابي هذا هو فائض قوة العمل الشابة في البلدان المتخلفة، العربية والإسلامية خاصة. وكما ذكرت، في مواضع سابقة من هذه الأسئلة، فإنّ حكام الخليج معنيون بالتخلص من قوة العمل الشابة، غير المؤهلة علمياً ولا مهنياً، بل مؤهلة وهّابياً. ولكي لا تنفجر في داخلها، لا بدّ من خلق فرص حراك لها خارج تلك البلدان. وبالطبع يحلّ محلها عمّال استُجلبوا من الخارج، كعبيد فعلاً.
جيش الإرهاب الاحتياطي ليس ضئيلاً. قد يوضح هذا قيام الكويت، على صغر حجمها، بتجنيد 12 ألف إرهابي ضدّ سوريا. هذا الرقم المعلن، وضد سوريا فقط، فما بالك ضد البلدان العربية الأخرى. بل حتى تجنيد ينفق عليه إرهابي واحد، وهو عضو «برلمان» سابق، يمثّل من هذا؟ يمثل شعباً. الاسم الأخير لهذا المجرم، الطبطبائي. ربما الاسم مناسب للطبطبة، التي توليها الأمم المتحدة على تخريب الوطن العربي. ومن قال إن الكويت لا ترسل الإرهابيين إلى العراق، وهي جزء من العراق؟!
آخر ما يُقال في تونس إنّ هناك 3000 تونسي يقاتلون في سوريا. هذا من دون إحصاء حقيقي، ومن دون إحصاء عدد من قُتلوا، ومن دون إحصاء من يقاتلون في جمهوريات عربية أخرى. والمهم أنّ تمويل تجنيد هؤلاء هو من الخليج، فضلاً عن نخاسة النساء لجهاد النكاح. (انظر كتابي، جهاد النكاح: ذكوري لا ديني، منشورات دار أبعاد ــ بيروت 2013)
إذاً تمّ توظيف الريع النفطي للتثقيف الوهابي والتسليح الإرهابي. وهذا وضع طبيعي في بلدان حكامها لا يؤمنون بالتنمية، ويعرفون أنّ الثروة المتراكمة في أيديهم ليست لأي عمل إنتاجي، بل هي للاستهلاك، ويُقرّون بأنّ من يقرّر في كيفية صرف هذه الأموال هو المركز الإمبريالي، بلا رتوش. لذا تم تسخير مقادير هائلة منه لتجنيد إرهابيين من مختلف البلدان العربية والإسلامية، بدايةً ضد سوريا، ولاحقاً ضدّ مختلف الجمهوريات العربية. لا يمكن لهذا الحراك الإرهابي أن يتمّ بمعزل عن علاقة أنظمة الريع النفطي بالمركز الإمبريالي، لا من حيث سهولة الحراك، ولا من حيث الدور المنوط بقوة التخريب هذه.
إذاً نحن أمام تعاقد رأسمالي على صعيدي المركز والمحيط؟ فتجنيد جيوش الإرهاب هذه، وخاصة ضد الوطن العربي، يحقق للرأسماليات الغربية:
ــ واقع عربي متهالك يجعل تواصل نهب ثرواته سهلاً وسلساً.
ــ يطيل عمر الكيان الصهيوني، ويعمّق التطبيع، ويقرّب الكيان باتجاه قيادة الوطن العربي مباشرة، أو مداورة، بالتطبيع.
ــ إطالة عمر أنظمة الريع، بتخليصها من الجيوش الإرهابية التي ولدتها، وثقفتها.
ــ تواصل تسويق الأسلحة والذخائر والخدمات اللوجستية لمصلحة الشركات الغربية.
ـ محاصرة أي تقدّم في علاقات روسيا والصين في الوطن العربي والعالم الإسلامي.
لم يعد بالضرورة أن يقود القمع والبطالة والبغاء إلى ثورة الفقراء. ليس هذا موضع نقاش في هذه العجالة. ولكن كما نرى فإن:
ــ تزايد عدد عمال الصناعة في المحيط لم تنتج منه نضالات طبقية ثورية.
ــ تزايد عدد العاطلين من العمل في بلدان المحيط كذلك، لم يرفع سقف النضالات الثورية.
ــ والأزمة المالية الاقتصادية في المركز تمّت محاصرتها تقريباً كي لا تتفجر ثورة في المركز.
ــ كثير من قوة العمل الفائضة، في الخليج وبلدان إسلامية أخرى، يتمّ تنفيسها هناك بتفخيخها لتنفجر في «سوراقيا» وبقية الجمهوريات العربية.
ما يحدث خارج السياق المألوف، أو المتوقع، على الأقل قيام، ربّما، ملايين المهاجرين من العمال، وحتى مع أسرهم، وخاصة السوريين، بالتسلل إلى شاطئ المتوسط، والانتحار في البحر، محققين حراكاً عمالياً حتى لو بالموت. بل بالموت يهدمون جدار الفصل العنصري المعولم بين المركز والمحيط. إنهم ذاهبون إلى الاستغلال، والاضطهاد، والتمييز الأبيض ضدّهم. ماضون إلى ذلك في «سعادة» ودون ذلك، فلا بأس بالموت! هؤلاء الذين إمّا رفضوا الانتظام في صفوف الإرهاب، أو أنه ليس بحاجة إليهم، هم فائضون عن الحياة والوجود، إنهم يقومون بخرق قانون منع حراك العمّال، بأرواحهم، وحتى بأرواح أطفالهم. ترى هل يعرفون أنّ أهمّ أسباب فقرهم، وعوزهم، وقرارهم الانتحار، هو رأس المال؟:
ــ أنّ رأس المال الغربي نهب بلدانهم على مدار قرون، ولم يتوقّف بعد.
ــ وأنّ ما تسمّى دول ما بعد الاستعمار أو ثورات هذه البلدان، قد خلقت حكاماً أصبح مثلهم الأعلى هو المستعمِر نفسه.
هذا هو الاستثناء لحراك العمّال... وأيّ استثناء!
* كاتب عربي ـ فلسطين