مصطفى بسيوني *يمكن الحديث طويلاً عن أزمات اليسار المصري المزمنة منذ ميلاده في الربع الأول من القرن العشرين وحتى الآن، سواء على المستوى النظري أو التنظيمي أو على مستوى العمل الجماهيري وغيرها. ولكن رغم كل ما يمكن أن يقال عن اليسار المصري عن حق أو عن سوء فهم أو عن سوء قصد، فإن ميزة غاية في الأهمية ظلت ملتصقة باليسار المصري طوال تاريخه. لقد تميز اليسار في مصر بالاستجابة السريعة لأوضاع الصراع الاجتماعي والنضال السياسي بغض النظر عن مضمون تلك الاستجابة وما يمكن أن يؤخذ عليها. فميلاد اليسار المصري كان مصاحباً لتفجر النضال الوطني والحركة العمالية في تلك الفترة التي تأسس فيها الحزب الشيوعي الأول في مصر. وصعوده التالي في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته ارتبط بالعوامل نفسها لصعود الحركة العمالية والنضال من أجل التحرر الوطني. ورغم الكمون الذي عاشه اليسار في الخمسينيات والستينيات في الفترة الناصرية، سواء نتيجة السجن والقمع أو التشويش الفكري الذي عاناه في تلك الفترة، إلا أن اليسار عاد للصعود مرة أخرى من نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، مدفوعاً أيضاً بتفجر القضية الوطنية وصعود الحركة العمالية، وهو الصعود الذي امتد إلى الثمانينيات. هكذا تميز اليسار المصري بارتباطه صعوداً وهبوطاً بصعود الصراع الاجتماعي والنضال الوطني وهبوطهما. ولا يمكن اعتبار تلك الميزة أمراً استثنائياً، فمن الطبيعي أن يتأثر اتجاه سياسي سلباً وإيجاباً بأوضاع المجتمع الذي ينمو فيه. هذا في حد ذاته إشارة إلى حيوية هذا الاتجاه وطبيعة علاقته بمجتمعه.
ولكن هذه الميزة الهامة هي بالذات ما يوشك اليسار المصري أن يفقده في المرحلة الحالية. فما تشهده مصر اليوم هو تفجر كل القضايا التي دفعت اليسار سابقاً للصعود. صعود في الصراع الاجتماعي متمثل في إضرابات عمالية غير منقطعة وحركات مقاومة في أوساط الفلاحين والقطاعات الفقيرة والمهمشة في المجتمع. صعود حركة النضال الديموقراطي ووصولها لتحدي النظام ورئيس الجمهورية واتساع قاعدتها يومياً. زوال أوهام السلام مع إسرائيل وتزايد السخط على برامج التطبيع الرسمية من تصدير غاز واتفاقية الكويز وحصار المقاومة. ومع ذلك، يبدو ظهور اليسار اليوم، مع تفجر تلك القضايا دفعة واحدة، باهتاً بل غير ملحوظ في أحوال كثيرة.
اقتصار اليسار على كونه قوة داعمة لليبرالية على أساس أن الانفراج الديموقراطي سيفتح الطريق للنضال الاجتماعي، ليس سوى خدعة
يبدو أن ما تعرّض له اليسار المصري ضمن اليسار في العالم في التسعينيات كان أبعد أثراً مما توقعه البعض. فعلى المستوى الفكري والنظري، كان لانهيار الاتحاد السوفياتي بالنسبة لحركة اليسار المصري التي غلب عليها إجمالاً الفهم السوفياتي للاشتراكية، تأثير مدمّر. وقد ارتبك اليسار بالفعل في مواجهة الهيمنة الفكرية للرأسمالية ومقولات نهاية التاريخ والعولمة التي سادت الساحة في ذلك الوقت. وعلى المستوى التنظيمي، تفككت أغلب منظمات اليسار الراديكالي، وانسحب عدد كبير من كوادر اليسار إلى حركة المجتمع المدني. ولكن حركة المجتمع المدني بدورها اختصرت عملها في العمل الحقوقي والبحثي، فلم يظهر المجتمع المدني في شكل نقابات وروابط وجمعيات تضم عضوية واسعة من عمال أو فلاحين أو أصحاب مصالح مشتركة، بل ظهرت منظمات حقوقية تقدم الخدمة والمشورة، وهو عمل هام بالطبع ولكن لا يمكن اعتباره بديلاً للمجتمع المدني بمفهومه الجماهيري. ومع دخول القضية الفلسطينية نفق التسوية في مطلع التسعينيات، وبدء برامج التكيف الهيكلي وهيمنة القطب الأميركي في المنطقة، شهد المجتمع المصري فترة هدوء ممتدة قطعتها بعض الأحداث، مثل إضراب كفر الدوار في 1994 وحركة الفلاحين في 1997 وغيرها، ولكن ظل الهدوء سيد الموقف. يبدو أن الركائز الثلاث لأي حركة سياسية ــــ الفكر والتنظيم والحركة ــــ قد تضررت بشدة لدى اليسار المصري في تلك الفترة.
ولكن ألم يتغير الكثير منذ ذلك الوقت؟ بالطبع، فالفكر الذي هيمن طويلاً مُني بنكسات متتالية وأصبح من الصعب على أشد المتحمسين للرأسمالية تبرئتها من الأزمات التي تعصف بالعالم. تسوية الصراع العربي الصهيوني التي انطلقت تحت الرعاية الأميركية انسدت كل طرقها، واستعادت المقاومة اعتبارها في غزة ولبنان، وعادت إلى الصعود حركات المناهضة للصهيونية. وحركة النضال الاجتماعي أفاقت من صدمة التكيف الهيكلي وسياسات السوق، وانطلقت نضالات العمال والفلاحين وحركة النضال الديموقراطي. هل يمكن أن تتوافر بيئة أفضل لنمو اليسار وتطوره؟ في الواقع، لم تكن استجابة اليسار المصري بالسرعة والمرونة نفسيهما اللتين تميز بهما سابقاً ــــ ولا يمكن هنا إنكار جهود جماعات وأفراد يساريين للتفاعل مع تلك المتغيرات ــــ ولكن الملاحظ أن اليسار لم يستطع حتى الآن تجاوز حال الأزمة التي عاناها منذ التسعينيات.
وقد تكون حركة التغيير والإصلاح الديموقراطي الصاعدة في مصر اليوم وتعاطي اليسار معها مثالاً جيداً على أزمته. فقد اكتفى القطاع الأكبر من اليسار بمساندة حركة التغيير الديموقراطي والاندماج بها، على الرغم من اقتصار تلك الحركة على المطالب الخاصة بتعديلات في الدستور. مساندة المطالب الديموقراطية في حد ذاتها تمثّل أحد أهم التزامات اليسار بكل تأكيد، ولكن المشكلة هنا تكمن في اكتفاء اليسار بأن يكون ملحقاً للحركة الليبرالية، وأن يتردد في طرح برنامجه للتغيير الذي يجب أن يشمل، إلى جانب المطالب الديموقراطية والحريات، القضايا الطبقية والوطنية. من الضروري بكل تأكيد الدخول في تحالفات سياسية على أساس القضايا المشتركة، ولكن ذلك لا يعني بالمرة تجاهل باقي القضايا أو تأجيلها.
إن ما يفقده اليسار اليوم هو بالذات ما لا يمكن تعويضه لاحقاً. إن الانهيار التنظيمي الذي عاناه اليسار في مطلع التسعينيات، إضافة للمأزق النظري والركود السياسي، هي أمور يمكن تجاوزها عبر إعادة إنتاج الأفكار وتطويرها وإعادة البناء التنظيمي وزوال الركود السياسي. وقد تكرر ذلك بالفعل في تاريخ اليسار المصري. ولكن فقدان الحساسية تجاه حركة المجتمع وعدم الاستجابة بالسرعة والكفاءة المطلوبة، هي ما لا يمكن تعويضه مرة أخرى، لأن الأمر هنا يعني الفارق بين تيار سياسي مناضل مهما كان وضعه وقوته، وبين نخبة مثقفة معزولة عما يجري، مهما كان تاريخها. إن ما يحتاجه اليسار اليوم بعد اهتزاز اليقين بالسياسات الرأسمالية وفشل مسار التسوية واستعادة الطبقة العاملة للمبادرة، ليس مجرد دعم المطالب الديموقراطية، وهو أمر ضروري، والتبعية لليبرالية، ولكن ينبغي أن يقدم اليسار المناضل رؤيته للتغيير، التي تتجاوز المطالب الديموقراطية إلى التغيير بمعناه الاجتماعي والسياسي الشامل. إن اقتصار اليسار على كونه قوة داعمة لليبرالية على أساس أن الانفراج الديموقراطي سيفتح الطريق للنضال الاجتماعي والتغيير الأوسع، ليس سوى خدعة. فقوة التغيير الحقيقية تكمن في العمال والفلاحين والفقراء الذين لن يخوضوا معركة التغيير إلا إذا كانت تعني تحسيناً حقيقياً لحياتهم عبر إعادة تقسيم الثروة، لا تقسيم السلطة بين النخب السياسية.
ولكن أهم ما يجب أن ندركه أنه إذا لم يقم اليسار بما يجب عليه في تلك اللحظة على المستويات المختلفة، فإن ذلك لن يعني نهاية اليسار، بل سيعني نهاية هذا اليسار بالتحديد وإزاحته جانباً ليفسح الطريق لأجيال جديدة تنسج رايتها اليسارية بنفسها وتستجيب بطريقتها لما يطرحه الواقع.
* صحافي مصري